علي بن سالم الرواحي:تأويل الحروف المقطعة: واختلِف في تأويل الحروف المقطعة بين مجيز ومانع,وحجة المجيز أن القرآن لا بد أن يكون مفهوماً لدى الناس وإلا لم يكن الله يأمر بتدبره والتفكر فيه, في حين يقول الطرف الآخر أنه سر خفي استأثر الله بعلمه وهذا نابع بجواز التكليف بما لا نعقل معناه, كما جاز التكليف بالأفعال التي لا ندرك معناها كأفعال الصلاة والحج والطهارات, وفي ذلك التكليف ابراز الإيمان بما جاء به الله سبحانه وتعالى, الساطع بالأنقياد له سبحانه, وذلك سمة المتشابه حيث نؤمن بالله دون أن يتحقق لنا فهمه, وروِي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قوله: (في كل كتاب سر, وسره في القرآن أوائل السور) وهذا القول يتفق مع عبارة (نص حكيم قاطع له سر) وهو يعبر عن الحقيقة بوجود سر لتلك الحروف ولم تأتِ عبطاً, وهناك من يجعل التأويل لهذه الحروف خاصة بالراسخين بالعلم دون غيرهم.واستدل المأولين بشواهد من اللغة العربية بجعل بعض الحروف رموزاً على كلمات, منها قول الشاعر:قلنا لها قفي لنا قالت قافلا تحسبي أنّا نسينا الإيجافأي قالت: وقفت.وقول الشاعر:بالخير خيرات وإن شراً فا ولا أريد الشر إلا أن تا(فا) رمز لـ (فشراً), و(تا) رمز لـ (تشاء).وعلى أية حال وباتفاق جميع الأطراف, يلاحظ أن أربع وعشرون سورة من المفتتحات بالأحرف المقطعة يذكر القرآن مباشرة عقبها, فماذا يعني ذلك؟ لا شك أنها تشير إلى اعجاز القرآن, وكأن لسان حالها يقول أن هذا القرآن مؤلف من نفس أحرف ما تكلمون بها فهل تستطيعون الإتيان بمثله؟ كلا, لأنه فوق طاقة الخلق, وهذا لا يتنافى في كون حقيقة وهو إن سرها معلوم لله وحده, ولا يتنافى مع القول بأن شحنات تنبيهية لمن يسمع أو يقرأ القرآن تشحذ همته للاستماع, وذلك عن طريق التهجي فمن تهجاها لفت نظره إلى المتهجي به بتمهل و رفق وهو يقوده إلى ما بعده, وقد كان مشركو قريش يخشون من سماع القرآن, لقوة تأثيره, قال الله تعالى:(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)(فصلت)وعلى أية حال, فإن تأويلاتها هي مجرد ظنيات نابعة من اجتهادات بشرية, سواء من الصحابة أو من التابعين أو من غيرهم, أما الأسرار فغالب من بحث فيها فقد ركّز على أسرارها العددية وهي وإن كانت من لطائف القرآن لكن تبقى مجرداً ظنياتا لا ترقى كإعجاز كما قال كثير من العلماء.ولقد أُوِّلت هذه الحروف إلى تأويلات عديدة منها:1 ـ كل حرف مأخوذ كرمز على اسم من الاسماء الحسنى, فمثلاً حرف (اللام) مأخوذ من (لطيف), وحرف (الميم) مأخوذ من (الملك), وفي (كهيعص) الكاف تدل على الكافي، والهاء على الهادي، والياء على الحكيم، والعين على العليم، والصاد على الصادق, والدليل على هذا ما جاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُ قَالَ:(فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(كهيعص) وَطه, وَطس, وَطسم, وَيس, وَص, وَحم عسق, وَق, وَنَحْوِ ذَلِكَ, قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) ـ (رواه البيهقي في الاسماء والصفات), واعترض عليها أنه لا دليل معتمد.1 ـ إنها اسم الله الأعظم, وهو مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما.2 ـ إنها دالة على حوادث , وهذا قائم على حساب الجمل العددية للحروف.3 ـ إنها دالة على أجل الأمة المحمدية, ويدل عليه حديث أبي ياسر بن أخطب من اليهود إذ سمع الرسول الله عليه وسلم يقرأ (ألم), ثم دار حديث بينهم, وهو حديث ضعيف لا يحتج به.4 ـ إنها للقسم بها, والمقسم عليه هو اعجاز القرآن, شأنها شأن (والضحى) و(والفجر), والدليل عليه قول ابن عباس السابق, واعترض عليه أن صيغ القسم معروفة, وهذه خارجة عن تلك الصيغ.5 ـ إنها أسماء للسور تعرف بها, فتسمى الدخان بـ (حميم), والبقرة بـ (ألم), والدليل «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الم السَّجْدَةَ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ»(رواه الطبراني في المعجم الأوسط), أنه سمى سورة السجدة ـ (ألم), وأُعتِرض على هذا أن غالب السور غير مفتتحة بالأحرف المقطعة, ومع ذلك لها أسماء.6 ـ إنها أسماء لملائكة أو للنبي محمد صلى الله عليه وسلم, فيشير اللام إلى (جبريل) والميم إلى (محمد), وهذا مأثور عن ابن عباس, وتستخدم هذه الأحرف لنداء الملائكة.7 ـ إنها أسماء للقرآن الكريم, روي عن ابن عباس في معنى (ن) أنه اسم للقرآن.8 ـ إنها رموز لمعان محددة, نحو (ألمر) رمز لمعنى (أنا الله اسمع وأرى), و(ألمص) رمز لمعنى (أنا الله أفصل) قد استدلوا بما روي عن ابن عباس أن (ألم) تعني (أنا الله أعلم).9 ـ مجموع بعضها يتشكل منه اسم من اسماء الله, نحو (ألر)+(حم)+(ن) =(الرحمن).10 ـ إنها سر القرآن, كما سيدنا أبو بكر الصديق بذلك.11 ـ أنها تحتمل كل التأويلات السابقة, وهذا ناشيء من إن اختلافها اختلاف تنوع لا تضاد.أما السور الأخرى ـ غير المفتتحة بالأحرف المقطعة ـ فقد افتتح بعضها بالثناء على الله مثل:(الحمدلله رب العالمين) (الفاتحة ـ 2), ومثل:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (الأسراء ـ1), ومثل استفتاح المجادلة بـ (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ), وبعضها بالقسم نحو (والضحى), و(الفجر), وبعضها بالنداء مثل (يا أيها النبي) و(يا أيها الذين آمنوا), وبعضها بالشرط نحو(إذا الشمس كورت), وبعضها بالأمر نحو (قل) و(اقرأ), وبعضها بـالاستفهام مثل (هل أتى على الإنسان), وبعضها بالدعاء نحو (ويل للمطففين), وبعضها بالتعليل نحو (لإيلاف قريش).أخي القاريء: أرى نفسي قد غرقت في بحر هذه الأحرف المقطعة ولا استطيع الابحار فيه زيادة, ولا وسيلة لي إلى ذلك, فلأنجو بنفسي من الغرق بالتوقف عن الإبحار, وعسى قد استفدت في هذا الموضوع, واستلهمت فكرة واضحة حوله, ووفقنا الله إلى ما يحب ويرضى.