علي بن سالم الرواحي:
لقد نزل القرآن ابتداءً على لغة قريش, وذلك لأنها أفصح اللغات, فقد كانت قريش مركز الحجاج والزوار وكانوا يتخيرون ألفاظ العرب أحسنها ثم تهضمها في لغتها, بخلاف لغات العرب داخلها التي بعض اللحن في كلماتها وألفاظها.
ثم جاء نزول القرآن على سبعة أحرف تلبية لعقول العرب و تغذية لفطرتهم اللغوية, حيث أن كل قبيلة يسقط الألفاظ على لحنها بإيقاعه الموسيقي الخاص بها.
ثم لما غلب لسان قريش على كافة العرب, رأى الصحابة بقيادة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ في عهده, إنه لا حاجة للأحرف السبعة, لا سيما عندما وقعت فتنة بين القراء, حتى كادوا أن يتناحروا بينهم, فقرر عثمان اخماد الفتنة بجمع قراءات القرآن على لغة قريش, و حصل نسخ اللغات الست بإجماع الصحابة, وهو لا يتنافى مع حفظ الله لكتابه, ولا للأحاديث الدالة على سبعة أحرف, لأن الأمة مخيرة في السبع اللغات, وليس مجبرة عليها كلها أو جمع منها, واختارت لغة قريش, لقول عثمان:(إنما نزل بلسانهم) أي: بلسان قريش, وكان ذلك في بداية الوحي, وهنا تساؤل إذا كان المصحف العثماني بلغة قريش فقط, فلماذا فيه كلمات غير قرشية, مثل:(الأرائك) من لغة اليمين, (مراغماً) أي:(منفسحاً) بلغة هذيل, والجواب كما سبق أن قريش هضمتها حتى أصبحت من لغتها, ثم هناك تساؤل آخر: ما هي اللغات الست, ولا يهم الجواب عليه, لأنه لا يقدم ولا يؤخر قدماً.
2 ـ سبعة أوجه من الاختلاف في قراءات القرآن, وهو لأبي الفضل الرازي ومن وافقه, وهي:
ـ اختلاف في الاسماء من تذكير وتأنيث, ومن إفراد وتثنية وجمع, نحو قوله تعالى:(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)(المؤمنون ـ 8), بالجمع لـ(أماناتهم), وقرأ بـ (الإفراد) هكذا (أمانتهم).
ـ اختلاف في تصريف الأفعال من مضارع وماض وأمر, مثاله قراءة (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) (سبأ ـ 19), بـ (ربٌّنا باعدَ بين أسفارنا), فالفعل (باعد) في الأول أمر, وفي الثاني ماض, و(ربنا) في الأول منصوب على النداء, وفي الثاني مرفوع على الابتداء, كما قُرِأ (باعد) بـ (بعًّد).
ـ اختلاف في وجوه الإعراب, نحو قوله تعالى:(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة ـ 37), قُرِأ (آدم) بالنصب و(كلمات) بالرفع, ونحو قوله تعالى:(وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف ـ 31), قُرِأ بـ (بشر) بالرفع, والأول قراءة الجمهور.
ـ الاختلاف بالنقص والزيادة: كقراءة ابن عباس لقوله تعالى:(وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) (الكهف ـ 79), بـ (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً), بزيادة (صالحة) وبـإبدال كلمة (أمامهم) بـ (وراءهم), وكذا في (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ)(التوبة ـ 100), حيث نُقِصت منها (من) قبل (تحتها) كما أثبتتها قراءة أخرى, وكذا في قوله تعالى:(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) (البقرة ـ 116) بزيادة (الواو), وتحكي قراءة أخرى نقصانها.
ـ الاختلاف في التقديم والتأخير, نحو (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (التوبة ـ 111), قُرِأت بـ (فيُقتَلون ويَقتُلون) بالعكس, وفي الحروف قُرِأ:(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) (الرعد ـ 31), بـ (يئيس), بقديم الياء الثانية في الأول وتأخيرها عن الهمزة في الثاني.
ـ الاختلاف في الابدال وهو ابدال حرف بحرف, نحو قراءة (يعلمون) بـ (تعلمون),ونحو ابدال الزاء في (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا) (البقرة ـ 259) بالراء في (ننشرها), وابدال كلمة بأخرى, نحو قراءة (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) (الواقعة ـ 29) بـ (طلع منضود).
ـ الاختلاف في النطق بالكلمات والحروف من نحو الفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والادغام والإظهار, نحو قراءة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون ـ 1) بتسهيل الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها وهو الدال, وقٌرِأ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى) (النازعات ـ 15) بإمالة الألفين في (أتاك) و(موسى), وقُرِأت الراءين بالترقيق في قوله تعالى:(وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)(الإسراء) أي في قوله (خبيرا بصيرا), كما قُرأ أيضاً قوله تعالى:(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)(البقرة ـ 22 ) بتفخيم اللام في (الطلاق).
* قول ثالث
يوجد قول ثالث يقول بتقسيم القرآن إلى أبعاض, كل بعض نزل بلغة من لغات العرب, أي أن بعض القرآن بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة ثقيف, وهذا مرجوح لأنه اختلاف في تجزيء القرآن الواحد وليس في بعض الألفاظ والأحرف, ولأن كل قبيلة مكلفة بكامل القرآن لا بالقدر المخصوص بلغته كما يُظن, ولِما فقهت كل قبيلة لغات أخواتها من القبائل الأخرى, وبالتالي يكون العنت واقعاً عليها في قراءة القرآن من خلال الأحرف السبعة وهذا يعني سقوط الحكمة من تعدد أحرف القرآن وهو التيسير على الأمة, ويرد هذا القول كذلك أن عمر وهشام اختلفا في الأحرف مع إنهما من قبيلة قريش, فكيف يأخذ كل منهما حرفاً غير حرف صاحبه مع أن لغتهما واحدة.
* الراجح من القولين: الأول والثاني
من رجح القول الأول قال بأن الأحرف منسوخة من لدن الصحابة وأن المصحف قد خلا منها, وأن القراءات العشر أو الشبع المتواترة انبثقت من حرف قريش, أما من قال أن سبعة أحرف في القرآن الكريم عزيمة لم تُنْسًخ, بل هي موجودة في القرآن الكريم محتملة في الرسم العثماني, إلى اليوم رجح القول الثاني, ثم قالوا أن القراءات السبع أو العشر المتواترة تفرعت عن تلك الأحرف.
ويؤيد الرأي الأول حديث هشام وعمر حيث الاختلاف في القراءة واللغة ظاهر فيه, وحديث عبدالله بن عمرو أنه (صلى الله عليه وسلم) سمع:(أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ، فَقَالَ: (إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ) ـ رواه مسلم, ووجه الشاهد أنه على القول الأول لا اختلاف في تعدد اللغات في المعنى الواحد, لأن التصور مفهوم عند الجميع, فتعين أنه المقصود بالسبعة الأحرف, ويؤيده أيضاً أنه قول جمهور السلف من الصحابة, وهم من شهدوا تنزل القرآن الكريم وعرفوا معازيه ومعانيه. وأنا اذهب إلى هذا القول لأنه محتمل راجح من النصوص الشرعية.
أما ترجيح القول الثاني فآتٍ كما سبق من القول ببقاء السبعة الأحرف في القرآن, وإن الله تعالى حفظها كلها.
* من حكم السبعة الأحرف في القرآن
سبقت الاشارة إلى حكمة التيسير والرفق بالأمة المحمدية من خلال نزول القرآن على سبعة أحرف, إلى أن هناك حكمة أخرى وراء ذلك, وهي بقاء الاعجاز القرآني مع التعدد اللغوي وذلك في معانيه واحكامه حيث لا تنافي بينها, وبناء على القول الراجح الثاني من أقوال السبعة الأحرف بتعدد المعاني فإننا نرى أنها احتملت وجوهاً متنوعة لا تضادد بينها, ويعطي ذلك تلاؤم القرآن وشموليته لكل قوم وعصر ولغة.
.. والله ولي التوفيق.