منذ وقت ليس ببعيد جمعني برنامج تدريبي قدمته لإحدى المؤسسات بشخص في العقد الخامس من العمر سبق أن حضر معي برنامجا تدريبيا منذ عدة سنوات. استطاع منذ اللقاء الأول أن يحفر انطباعا إيجابيا في ذاكرتي، فهو يتمتع بطاقة إيجابية وبروحانية طيبة وكان محبوبا من جميع المشاركين، وكان كثير الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى، يُعدّد نعم الله عليه، ويذكر أصحاب الفضل عليه بعد الله سبحانه وتعالى، يذكرهم بالأسماء والمواقف وبتلقائية وامتنان. وفي سياق الحديث عرفت أنه يوشك أن يبلغ سن التقاعد وأنه اعتذر عن استثناء عرض عليه لتمديد خدمته، مبررا اعتذاره بأنه أخذ فرصته وقدم لبلده أكثر من 37 سنة خدمة وأنه لا يرغب في الاستمرار في العمل ولو ليوم واحد، وعندما لاحظت زهده في تمديد أجل خدمته، سألته عما ينوي فعله بعد التقاعد، فإذا به يعرض مشروعا طموحا للعمل التطوعي قائلا: أريد أن أدخل البسمة إلى حياة الآخرين. فهو نجح كأب لعشرين شابا وشابة، أستطاع أن يعلمهم حسب قدراتهم وطاقاتهم الفردية دونما إكراه، ثم ساندهم حتى التحقوا بوظائف مختلفة دون أن يترفعوا عن أي وظيفة مهما كان مستواها، مطبقين حكمته بأن العمل عبادة مهما كان نوعه ومهما كان مستواه المادي والاجتماعي، فثلاثة منهم بدأ حياتهم المهنية سائقي باصات نقل طلاب قبل أن يحصلوا على فرص عمل في مؤسسات حكومية وخاصة، وبعد أن اطمأن عليهم وعلى مستقبلهم شجعهم على الزواج، وحفزهم على الاعتماد على الذات، ثم جمعهم وقال لهم: يمكنكم الآن تكملوا مشوار بناء مستقبلكم وسوف أبدأ مشوار مستقبلي. وكان فرحا جذلا يتكلم عن حلمه بحماس، وماذا يستطيع أن يعمل من أجل غيره، كان يتحدث عن نماذج كثيرة سبقته في مجتمعنا العماني. وتذكرت في نفس الموضوع ما سمعته من أحد الإعلاميين السابقين؛ تقاعد مبكرا ثم مارس تجارة العقارات، وعندما حقق مبلغا معينا، نزع نفسه من اللهاث وأعطى وقته للعمل الخيري، من خلال البحث عن الفقراء والمعوزين وتقديم العون لهم، وخاصة في مواسم الأعياد والمدارس، وقد ضاعف العمل الخيري حجم البركة في رزقه، فصارت الأعمال تطرق بابه وخاصة في مجال بيع وشراء العقارات، ومن بين الأخبار الطريفة حول طاقة البركة في رزقه أنه اشترى أرضا بأربعين ألف ريالا وباعها خلال فترة وجيزة بثلاثمائة ألف ريالا. ولم يعد تركيزه اعلى الجانب المادي للحياة بل صار اهتمامه منصبا على التجارة مع الله.
أما الشخص الثالث فقد شكر الله سبحانه وتعالى على نعمة التقاعد، وشرع يكتب الكتب، حيث نشر كتابا جميلا يقبل عليه القراء لما يحفل به من موضوعات مثيرة وجذابة حول الماضي وما كان يعانيه العمانيون في منتصف القرن العشرين من الحرمان ومن ضيق ظروف الحياة، وقد شجعه نشره للكتاب أن يشرع في تجهيز كتاب ثان للطباعة والنشر وسوف يكون أكثر إثارة من الكتاب الأول.
أما النموذج الأخير الذي أشفقت عليه فقد كان موظفا كبيرا في إحدى المؤسسات، واستطاع لمدة تقرب من ربع قرن أن يحصل على موارد وثروات حتى استطاع أن يبني لنفسه اسما بما اكتسب من خبرة وبسمعته التي شيدها على الإخلاص والصدق والأمانة، وقد تمكن بنجاح أن يبني رافعات مالية قوية تمنحه الحرية المالية والشخصية، وفي غمرة تحقيقه لمجده الوظيفي فوجئ بقرار احالته لوظيفة مستشار ثم التقاعد، وكان في ريعان العطاء والابداع، لكن التقاعد لم يهبط عليه بسلام، بل كانت وطأته ثقيلة وغير متوقعة. عندما جمعتني مناسبة اجتماعية كان منزويا ويبدو محبطا وكنت أود أن أهمس في أذنه قائلا: إن وجودك لا تحميه الوظيفة، فإمكانياتك وقدراتك تصنع مؤسسات بحجم تلك المؤسسة التي كنت تديرها، ومثلما استطعت أن تُحلّق بالمؤسسة إلى آفاق عالمية في الجودة والتسويق والتعمين، فأنت أيضا تستطيع أن تستثمر كل ما لديك من مواهب في تحقيق ما تؤمن به من أهداف.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مركز النجاح للتنمية البشرية