مسقط ـ العمانيةتعد نصوص ما يعرف بـ"سير وجوابات علماء عمان" مصدرًا مهمًا من مصادر المعرفة سواء أكانت تلك المتعلقة بنمط وأسلوب التأليف عند العمانيين، أو تاريخ الأفكار والمعتقدات، أو الجدل والحجاح، ويمكن وضع بعض تلك النصوص في خانة النصائح والإرشادات التي يتبادلها أو يرسلها العلماء للأئمة إيضاحًا منهم وتبيانًا للقضايا التي تشكل على الأئمة، وذلك في سبيل الوصول إلى حلول تضمن عدم نشوب الصدع والشقاق في الصف العماني.ومن يرجع إلى مدونة تلك السير ليدرك حجم التأليف وتنوع الأساليب وتعدد طرائق المعالجة لعدد من القضايا التي لولا لجوء أولئك العلماء والأئمة إلى ذلك النمط من التأليف، لفاتنا جزء كبير من المعرفة عن تلك الحقب، والصيغ التي توافق عليها العلماء والأئمة لحل القضايا التي طرأت عليهم.ويعد الإمام غسان بن عبدالله اليحمدي ثالث إمام ضمن الإمامة الإباضية الثانية التي أتت بعد فترة من سقوط إمامة الإمام الجلندى بن مسعود سنة 134هـ، وأول إمام في هذه الإمامة هو الإمام محمد بن أبي عفان (177-179هـ) ثم الإمام الوارث بن كعب الخروصي (179- 192هـ). وقد بويع الإمام غسان في سنة 192هـ واستمر في الإمامة حتى 207هـ.وفي عهد الإمام الوارث شغل غسان بن عبدالله منصب الوالي الأكبر على صحار، وحين بدأ القراصنة يضايقون العمانيين في فترة إمامته اتخذ من صحار قاعدة لصد هجماتهم حتى خلَّص عمان منهم، وتميز الإمام غسان بالحزم حيث أثمر قضاؤه على القراصنة انتعاشا في التجارة بسبب تأمين الطريق التجاري كما أولى الزراعة عنايته الفائقة، ومن الناحية العلمية فقد أصبحت نزوى موئلا ومستقرا لعديد من العلماء الذين استوطنوها وكونوا فيها المدارس العلمية.ومما حفظته لنا مدونة السير العمانية سيرة للشيخ المنير بن النير الجعلاني إلى الإمام غسان بن عبدالله اليحمدي، وتتجلى في هذه السيرة ملامح مهمة من ملامح تلك الفترة، حيث نقف على جملة من الأمور المهمة إذ أنَّ السيرة جاءت ردًا على الإمام غسان من قبل الشيخ منير، حيث طلب منه الإمام الإقبال إليه ليكون عونا له وسندًا، خصوصًا أن الجعلاني قد عاصر إمامة الجلندى بن مسعود. لذا نجد أن الشيخ الجعلاني في سيرته كثيرًا ما يستشهد بما كان متبعًا في فترة الجلندى بن مسعود. فهذه السيرة مصدر خصب للمعلومات عن الجوانب السياسية والإدارية والاجتماعية والعسكرية لفترة الإمام الجلندى.ويعد العلامة منير بن النير الريامي الجعلاني الذي ولد في جعلان في بدايات القرن الثاني الهجري من أبرز حملة العلم إلى عمان، وحملة العلم إلى عمان هم من سافر من العمانيين إلى البصرة ليتتلمذوا على يد الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي (توفي 145هـ) وكان لحملة العلم إلى عمان دور بارز في الحركة العلمية والسياسية في عمان في تلك الفترة، وقد كان الشيخ منير من أعمدة إمامة الإمام الجلندى بن مسعود.وتكشف سيرة العلامة منير بن النير الجعلاني إلى الإمام غسان بن عبدالله اليحمدي عن ثلاثة أفكار رئيسة وهي نصح للإمام غسان وتذكيره ما كان عليه السلف الصالح، كما بيَّن الجعلاني الحالة التي يؤول إليها الناس والمجتمع عند سقوط الإمامة، كذلك سعى الشيخ منير إلى بسط وتبيان الحال التي كان عليها زمن الإمام الجلندى بن مسعود سواء من الناحية السياسية،والإدارية والعسكرية والاجتماعية.ومن أبرز الأمور السياسية التي انتهجتها إمامة الإمام الجلندى هو وجود مجلس أهل الحل والعقد وهم نخبة العلماء وأفاضلهم، ويقوم هذا المجلس بدور مهم في ضمان استقرار البلاد نظرا لما يتصف به أعضاؤه من حكمة وحنكة تساعد الإمام على اتخاذ القرار السليم.أما الجانب الإداري الذي اعتمدت عليه إمامة الجلندى فهو اختيار الأشخاص المناسبين لتولي مهام الوالي، وقابض الصدقات، والقاضي، وقد عدَّد الجعلاني الصفات التي يجب أن يتحلى بها من سيتم اختيارهم لهذه المناصب وكما يورد عددا ممن وقع عليهم الاختيار زمن الإمام الجلندى لشغل هذه الوظائف.وأوضحت السيرة الطريقة المثلى لاختيار الشراة وهم الجزء المهم المكون للجيش وما هي الصفات التي يجب أن يتحلى بها الشاري. كما أظهرت السيرة الكيفية المثلى التي تعامل بها الإمام الجلندى مع عدد كبير من فئات المجتمع مثل العلماء والقضاة والولاة وقادة الجيش والجنود وجباة الزكاة والصدقات وأهل القبلة وأهل الذمة والنساء. كما حددت السيرة حقوق وواجبات كل فئة.واعتنى بسيرة العلامة الجعلاني الباحث الدكتور ناصر بن عبدالله الندابي حيث أصدرها مع دراسة معمقة لها، مع عناية النواقص التي لحقت بالطبعة التي أخرجتها الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف سنة 1989م ضمن كتاب "سير وجوابات لعلماء عمان" الذي صدر عن وزارة التراث والثقافة. حيث اعتمدت الدكتورة سيدة كاشف على نسخة واحدة فقط، أما في الإصدار الحالي فقد اعتمد الباحث الندابي على ما يقرب من اثنتي عشرة نسخة لسيرة الجعلاني، كما ضَمَّن الطبعة الجديدة من هذه السيرة تعريفًا بالعلماء الواردة أسماؤهم وضبطا للكلمات والمصطلحات العمانية وقد خرجت هذه السيرة مطلع العام 2016م ضمن منشورات مركز ذاكرة عمان ويقع الكتاب في 144 صفحة.