(1-2)
مقدمة
يعتبر الشاعر سعيد ولد وزير من القلة القليلة من الشعراء الشعبيين الذين حظيت قصائدهم بالجمع و التوثيق في فترة حياتهم، و هو مجهود قام به ـ مشكورا ـ الأستاذ و المحقق سالم بن محمد الغيلاني، الذي عمد من خلال الديوان المسمى بـ " الأدب الشعبي في بلد الشراع " الى توثيق تجربة شاعر من أهم التجارب الشعرية الشعبية في السلطنة ألا و هي تجربة الشاعر سعيد بن عبدالله الفارسي و المعروف بـ ولد وزير، و هو مجهود يشكر عليه، إذ بدون هذا التوثيق و هذا الجهد كانت ستضيع الكثير من قصائد هذه التجربة، كما ضاعت و ذهبت مع التاريخ و لم يتبق منها سوى شذرات في ذاكرة الحفظة الكثير من القصائد الشعرية لأهم رموز الأدب الشعبي و العامي في عمان.
و نحن نعلم أن الشعر الشعبي و كما يمكن أن نرى من خلال قراءتنا و تصفحنا لديوان الشاعر ولد وزير هو أهم موثق و مؤرخ للكثير من الأحداث التاريخية التي حدثت في الماضي كما أنه وعاء حافظ للغة و بالذات لغة الحديث اليومي و أسماء الشخوص و الأماكن و أسماء الأشياء و الأمثال و العادات و الفنون.
و رغم الدعوة التي وجهها المحقق في هذا الديوان للجهات الرسمية و المشتغلين بالأدب الشعبي بالتوجه إلى جمع هذا التراث الشعري الشفهي و تصنيفه و تبويبه و دراسته دراسة نقدية موضوعية إلا ان هذه المبادرات بدت خجولة و متواضعة فضاع الكثير من هذا التراث.
وأخص بالذكر هنا الى جانب جهد الأستاذ الغيلاني مبادرتي الاستاذين خميس بن جمعة المويتي و محمد بن حمد المسروري في توثيقهما للكثير من الأدب الشفاهي و الشعري بالتحديد، و ما هذه الدراسة إلا تذكير بأهمية هذا التراث الشفهي الذي لو قيض له الجمع و التوثيق لنال نصيبه من الدراسات التي نحن بأمس الحاجة إليها.

سيرة المكان و التنوع الثقافي و المكاني
المتتبع للسيرة للذاتية في تجربة ابن وزير يدرك أثر البيئة الثقافي و المكاني في تجربته الشعرية، فإبن وزير وهو ابن مدينة صور الساحلية، هذه المدينة الممتدة طويلا في ذاكرة التاريخ بكامل تنوعها المكاني و الجغرافي و الثقافي كفيلة بان تترك أثرها في ثقافة و تجربة شاعرنا، هذه المدينة التي كان يحج إليها الشعراء و تحج اليها الفنون بكامل تنوعها و تحج اليها الثقافات، حيث إن مدينة صور كانت نافذة للتواصل الحضاري و الثقافي للأمم المحيطة بها، كل ذلك شكل فُسيْفساء عجيبة كانت كفيلة لتترك أثرها في ثقافة أبنائها.
لم يقف ابن وزير عند حدود مدينته صور بل ذهب الى أبعد من ذلك، فبعد ان تشرب ثقافته الشعرية الأولى من موطنه الأصلي مستفيدا من الفنون الشعرية حوله محاورا أهم شعرائها و متتلمذا على يديهم كـ ( راشد الدهمشي ) و ( حافظ المسكري ) و ( محمد بن جمعة الغيلاني ) مجالسا إياهم في فنون شعرية كثيرة كـ ( الرزحة ) و (الميدان ) و ( الرمسة ) و ( القصيد ) قرر ان يذهب الى ما هو أبعد من ذلك ضاربا في الأرض نحو مناخات شعرية جديدة في أرض عمان متعرفا على فحول الشعراء متعلما منهم و مستمعا و محاورا تارة أخرى.
فنراه يتنقل بين المدن و الحواضر العمانية كـ ( جعلان ) و ( وادي بني خالد ) و ( وادي بني جابر ) مرورا بالباطنة في ( المصنعة ) و ليس انتهاء بداخلية عمان، كل هذا ترك أثره في الثراء المعرفي و اللغوي و الثقافي لشاعرنا فتفتحت عقليته على أنماط شعرية و فنون كلامية مختلفة تركت أثرها في نتاجه الشعري، كما أن السفر و التنقل بين الأماكن في الوطن العماني الكبير غذّى ملكته الشعرية و هذا نكاد ان نتلمسه من خلال الثقافة المعرفية و الجمالية لمختلف ما نقرأ له من نصوص شعرية، فالأماكن و اللهجات و العادات تترك أثرها فيما يكتب من نتاج كلامي و شعري.
كانت المرحلة الجديدة للشاعر سعيد ولد وزير هي مرحلة السفر خارج حدود الوطن بحثا عن منابع جديدة تغذي الملكة الشعرية لديه فكان أن توجه إلى شرق أفريقيا راكبا البحر، الذي هو مكون أصيل من مكونات طفولته و ثقافته اليومية المعاشة. إن ثقافة السفر و البحر كانت من أهم الروافد المعرفية التي رفدت التجربة الشعرية عند ولد وزير فقد تفتحت عقليته على نواح جمالية أخرى لم تكن موجودة في حدود وطنه الصغير، ففي الجزيرة الخضراء ( و من خلال مقابلة تلفزيونية ) يسرد تفاصيل لقائه بشاعر الجزيزة الخضراء ( سعيد بن خميس ) الذي يبدأ معه جولة شعرية من جولات المساجلات الشعرية محاورا و متعلما و صاقلا لتجربته الشعرية.
إن رحلة شرق أفريقيا كانت انطلاقة لرحلات بحرية أخرى قام بها ولد وزير فنراه تارة مسافرا و تارة تاجرا و تارة ( نوخذا ) يجوب البحر متنقلا بين دول الجوار و بين الهند و الصومال ساردا لنا شعراً الكثير من المغامرات البحرية التي صادفها في حياته و في رحلاته البحرية الطويلة. كما لا ينسى ابن وزير أن يسرد لنا بعضا من مساجلاته الشعرية مع شعراء من دول الخليج و إذ يلخص لنا هذه التجربة بقوله: " لقد اتضح لي من تلك التجارب التي خضتها و تلك القصائد التي سمعتها ان الآداء واحد و الطريقة هي هي، و لكن الذي يختلف هو اللهجة المحلية ".
كان كل ما سبق هو مقدمة للدخول الى عالم سعيد ابن وزير الشعري، حيث إن التنوع الثقافي في تجربته المكانية هو ما ألقى بظلاله بالتالي على التنوع الكتابي في تجربته الشعرية.

مدخل إلى التنوع الشعري
يرتبط الشعر الشعبي في عمان ارتباطا وثيقا بالفنون المغناة فهو ينطلق بها و من خلالها، و ساحات إقامة هذه الفنون هي المحرضة للارتجال و النظم. و قد رأينا ان الشاعر ابن وزير كان يقطع المسافات الطويلة للالتقاء بفطاحل الشعر الشعبي لمحاورتهم و مساجلتهم، و كانت هذه الساحات أماكن الانطلاق للانتشار الشعري، فمن خلال هذه الساحات تحفظ هذه المساجلات و تكتب و يتم تداولها على الألسن و يتلقاها الحفظة تكرارا و انشادا.
وبتنوع هذه الفنون المغناة تتنوع الكتابة الشعرية، فلكل فن طقسه الغنائي و فنه الشعري المرتجل او المكتوب، فيأتي الشعر المكتوب او المرتجل تابعا لطبيعة الفن المغنى و تباعا لذلك تتنوع الأشكال و القصائد الشعرية تبعا لتنوع الفن الغنائي الذي يكتب من أجله. ففي عمان تتنوع الفنون الغنائية و تتنوع بطبيعة الحال ألوان الشعر الشعبي بتنوع هذه الفنون. فيأخذ الشعر الشعبي أشكاله و ألوانه المختلفة وقد نرى أثر ذلك حتى في طريقة كتابة القصيدة الشعرية و تبدل و تنوع القوافي، إلى جانب طول البيت و قصره و تبدل البحور حسب اللحن المغنى من بحر إلى آخر هذا غير المحسنات اللغوية كالجناس وغيره.
إن كل تنوع كتابي يضاف كقيمة أدبية الى اي منتج إبداعي، و في تجربة سعيد ابن وزير نجد ذلك التنوع الكتابي الكبير واللافت، فابن وزير قد طرق معظم فنون الكتابة في الشعر الشعبي و على ضوء ذلك تنوع منتجه الكتابي، و القارئ لديوانه يكاد يلمح تلك الاستفاضة اللافتة و التنوع المذهل سواء على صعيد الأغراض الكتابية او على صعيد الفنون الغنائية المطروقة شعرا. و هو في كل فن تجده مستفيضا في كتابته، فهو لا يطرق الفن طرقا عابرا إنما موغلا فيه مظهرا قدرة عجيبٍ متمكنا من فنه و قلمه، فمن الرزحة الى الميدان و مختلف الفنون الغنائية الأخرى كالرمسة و التغرود نراه يطرق جوانب كتابية أخرى فهو شاعر معجون بوطنه و ثقافته و مكانه فنراه يكتب في الوطنيات و الاجتماعيات و الدينيات و الألغاز و قصائد المناسبات. كل هذا يشكل المنتج الكتابي العام في تجربة ابن وزير.
و سأحاول هنا التوقف عند بعض النماذج مظهرا هذا التنوع من خلال الفنون الكتابية التي طرقها ابن وزير مسلطا الضوء على قدرته الكتابية و مهارته في خلق هذا التنوع الكتابي في تجربته الشعرية.

أولا: الفنون الغنائية
يُظهر ابن وزير قدرة كتابية فائقة في طرق كتابة قصائد الفنون الغنائية، و اذ تشتهر ولاية صور بهذه الفنون و هو ابنها الذي ترعرع بين جنباتها و تشرب فنونها، نجده يطرق مختلف هذه الفنون الغنائية محاورا و مساجلا و فاعلا و متفاعلا. ففي فن الميدان نقرأ المراسلات و المساجلات الشعرية التي كانت تحدث بينه و أصدقائه من الشعراء كحافظ المسكري أو ما كان يبعثها في فترة إقامته في الكويت الى أصدقائه في عمان كقصيدته التي أجاب عليها السيد سالم بن محمد المهدلي. و لم تكن كتابة الميدان مقتصرة عند ابن وزير على المراسلات أو المساجلات بل ذهبت أبعد من ذلك فهو قد تفاعل مع الكثير من المواقف اليومية سواء في علاقاته البشرية الاجتماعية او في سفراته البحرية التي كان يمارسها، فنراه تارة يكتب قصيدة ميدان من موقف اجتماعي يحدث و يتفاعل معه في محيطه أو في رحلة بحرية يسرد فيها تفاصيل مفاجآت البحر و السفر أو متفاعلا مع موقف وطني يتطلب ارتجال قصيدة ميدان وطنية. و نقرأ له في احد مواقفه الحياتية حيث ضل شاعرنا طريقه و هو يؤدي مناسك الحج في الحجاز فكانت هذه القصيدة:
في ظلمة الليل غاب سعيد كلهن صبوعي ولاياهن
جملك يبا خطام و الا يواد قاموا يطحوا مرابعهم
أرابع هل الجود و الأيواد و أهل المغشة ما ارابعهم
إلى أن يقول..
في سفرة الحج غاب سعيد ضيّع خيامه و لا ياهن

أما في فن الرمسة (بن عبادي علوه و بن عبادي يا سالم) فثمة لغة أخرى تختلف تمام الاختلاف عن فن الميدان الذي تظهر فيه المقدرة اللفظية و بالذات الجناس التام و القدرة على صياغة الكلام و الجمع بين المفردات و المتضادات. فلغة قصائد فن الرمسة لغة شعرية عاطفية حالمة لا تظهر فيها الصنعة اللفظية و هو يماثل الى حد بعيد فن ( الدان دان ) أو قصائد المسبع من حيث التزامه بالقافية الثابتة التي تتكرر مع نهاية كل شطر الى جانب تشابهه مع نفس البحر الشعري و الذي يماثل في البحور الخليلية بحر البسيط.
بالعودة الى فن الرمسة و الذي هو في أصله فن عادة ما يقام في الأعياد و يسمح للفتيات بالمشاركة فيه حيث يظهرن بكامل زينتهن و ملابسهن الجديدة، كل هذا و غيره كفيل بأن يشعل عند شاعرنا تلك الرغبة الشديدة في المشاركة في فن كهذا و هو كفيل أيضا بتفجير تلك اللغة الشعرية العاطفية الحالمة التي يتجلى بها بكامل عنفوانه و رومانسيته، فنسمعه يصيح بأعلى صوته مناديا على مولدات الهوى ( المغنيات و الفتيات اللواتي يرقصن ):
يا مولدات الهوى يا كاتمات السدود
غنن بطيب الغنا يوم الأوادم قعود
بسري على حسكن لو عتكن في النيود
لون اني في الحبس و في رجلي ستة قيود
و نسمعه في مكان آخر يقول:
يا مولدات الهوى كذا سعيد يصخى به
ما شي فعل خير و لا حد بيسعى به !!
إن هذه العاطفة الجياشة التي يتمتع بها ولد وزير كانت مبررا كبيرا ليقول شعرا جميلا كهذا و هو جزء من صناعة القصيدة لديه، هذه العاطفة التي خلقت كل هذا التنوع الشعري الجميل.

تكتسب الرزحة بعدا جماليا و تأمليا آخر، فهي من الحوار الناشئ تفتح باب السؤال و التساؤل كما انها تظهر المقدرة اللفظية و سرعة البديهة لدى كلا المتحاورين، فهي تنفتح على عوالم كلامية أخرى تأخذ أبعادا تساؤلية حياتية و تطرق مواضيع في بعض الأحيان مسكوتا عنها سواء أكانت اجتماعية أم انسانية يومية. و إذ تأخذ قصائد الرزحة اشكالا كتابية مختلفة طبقا للحن فتأتي أحيانا قصيرة الأشطر ( همبل ) أو سريعة الإيقاع (قصافية ) أو طويلة الأشطر (اللال العود ) و قد تأتي المحاورات متضمنة ألغازا و أجوبة تشعل وتيرة الحماس كما تأخذ شكل المراسلات كقصائد طويلة في أحايين أخر. و لنقف قليلا عند هذه القصيدة و هي مقصب من فن الرزحة أتت على شكل قصيدة ( أو ما يسمى بالمراسلات ) بعثها سعيد ود وزير أثناء إقامته في الكويت إلى صديقه في عمان محمد بن عبدالله الهاشمي يبث فيها حنينه و شجوه الى وطنه و يذكر فيها تقلبات الحياة و الزمان مشتاقا و متذكرا ساحات الرزحة و الشعراء الذين كان يساجلهم، يقول ود وزير:
سميت بالله خالقي رب العرش اللي خلق عبده ضعيف و عيّشه
اول تقام الرزحة بسيوف و بخش السيف يلمع و به تسير املاكشه
المسكري حافظ و راشد ود همش كلامهم يمشي بدون املايشه
يا طارشي بلغ رسالتي وْ طرّش رسالةٍ من ود وزير امطرشه
لن ريْتْ محمد بالزراعة مرتبش بلْغه الرسالة و الحذر لا تربشه
فجاء رد محمد بن عبدالله الهاشمي أكثر شوقا و أكثر حزنا و أكثر تصويرا للحياة و آلامها:
حيا بكتابٍ جاني مـ البعد و دْهَش من شيفته روّع فوادي و دْهَشه
رحبت بالطارش و ذهبت الفرش من عادتي للضيف قلبي افرشه
و لن سلت عني بالزراعة مبتلش كسب المعيشة كل واحد يبلشه
قصر ابتني للتاجر و للفقير عشش فرق و مسافة ما بين قصره و عششه
ان كنت مشتاق وْ فوادك يرتعش و على الوطن قلبك يحن ويرعشه
زمنن تمثل فيه المسكري و ود همش و الدهمشي يعطيه جواب و يدهشه
يا سعيد صوغك خلاها القلوب تبش و انته الذي قلبه حزين تبشبشه
إن الرزحة في تجربة ابن وزير تأخذ أشكالا متعددة فمن المحاورات و المبارزات الى المربوعات التي تأخذ أشكالا مختلفة في قوافيها و ايقاعها، كل ذلك يدركه المتتبع لتجربة ود وزير الشعرية من خلال تصفحه لديوانه الشعري أو من خلال تتبعه لقصائده المتناثرة أو المحفوظة في ذاكرة الرواة، و لنستمع إليه في احد محاوراته يقول:
توه استراح فوادي بشوف الخيرين ناسٍ يحايوني محاياة المحب
يا نور عيني يا هلال الصايمين ثمرة لسانك تين تفاح و عنب
طاهر بن خميس العميري