حسب رأي العديد من أهل الاختصاص النسوة القبائل هن بالتأكيد الأكثر قدرة على التخيل في ابتكار الأحجام الفخارية، والزخرف الذي يوشّحها حسب تقنيات وتصاميم دائمة الوفاء إلى عادات متوارثة مع بعض التحويرات المرتبطة بأفكار المرأة من وقت لأخر .
في يومنا هذا وفي العديد من المناطق يمكن لنا العثور على عدة قطع قديمة لا يمكن حتى الحديث عن عمرها نظرا لديمومتها عبر الوقت ،لذلك اهتمت منطقة ماتكاس بانجاز متحف للفنون القديمة للمحافظة على هذه القطع التي تعد كنوزا .
فخاريات ذات أبعاد وظيفية بالأساس فن قديم ومنتشر في كامل أقطار الجزائر وخصوصا قطع مختلفة من منطقة لأخرى، تبين أن الأصل واحد ولكن الفروع تختلف وتتنوع وعند محاولة استعراض مختلف أنواعها يجب أن نأخذ بعين الاعتبار وظيفة القطعة ،فمنها ما يخصص للطهي وأخرى للتزويق وبمجرد مشاهدتها يمكن أن تعرف وظيفتها.
وتعد صناعة الفخار فناً خاصاً بالنساء اللواتي يتمتعن بمهارة ورثنها جيلا عن جيل لاسيما بندرومة وتلمسان وشنوة ومنطقة القبائل حيث يرجع المختصون أصول هذه الحرفة إلى العصر الحجري وبالرغم من التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي تعرفه المناطق الريفية في الجزائر العميقة لا تزال بعض الأواني التقليدية مثل الجرار المخصصة لحفظ الماء والمواد الغذائية والمصابيح والأواني وغيرها وتستعمل إما للحاجيات اليومية وإما خلال الأعراس والأعياد الدينية، ومن خلال أشكالها المتنوعة ورسوماتها تعكس الأواني الفخارية عبقرية المرأة الريفية الجزائرية و هي نفس الأشكال والرسوم التي توجد على الأزياء التقليدية والنسيج والوشم... وكلها إشارات تمثل رموز الحياة اليومية والتقاليد والأعراف التي يعمل بها السكان المحليون.
فالرسوم المتعرجة ترمز إلى المياه الجارية كما أن المربعات والمثلثات ترمز إلى خصوبة الأرض والمرأة فيما يوحى رسم الأفعى إلى الرجولة والتكاثر ...
فنساء الجزائر في قبايل يرسمن بأصابعهن على الفخار وحيطان منازلهن الكثير من أشكالهن ورساماتهن، واعتقادا أنها تحمل خصائص شفائية وسحر يحميهن ضد سوء الحظ وشر العين، فالسياّح يستمتعون باكتشاف نماذج هذا النشاط الرائع في كل يوم من خلال المصنوعات اليدوية أو من خلال زيارة أي من المتاحف المخصصة للزوار.
قطع كبيرة الحجم بيضوية ،اسطوانية أو مكعبة يصل ارتفاعها إلى المترين ذات قطر يصل إلى ومتر ونصف ،أما الجرار فترتفع إلى 70سم ذات عنق يصل إلى 10سم وأحيانا قاعدة ضيقة ممتدة متصلة ببطن متسعة تنتهي بعنق طويل تحتوي عادة على عرى جانبية ، أما المزهريات والمصابيح ،البرمة والكسكاس يكونون مع جميع أنواع الجرار الأخرى مجموعة لسلسة فخاريات عمودية .

أما السلسة الأفقية فليست اقل أهمية متكونة أساسا من الأطباق ذات الأحجام المختلفة أطباق كبيرة لبرم الكسكسي والطجين ولطبخ الخبز كالمثرد وأخرى صغيرة ثنائية وثلاثية تحتوي دائما قاعدة متسعة وارتفاع مقبول .
إضافة إلى كل هذا تنجز النسوة الجزائريات منحوتات فخارية ساهمت في الإقبال السياحي على هذه المناطق خاصة القطع الصغيرة بأشكال حيوانية كالثعابين والدجاج والجمال. تزخرف بأسلوب مميز خطوط وأشكال هندسية تسكن الصلصال الرملي وتغلف بطبقة من صمغ الصنوبر لتخرجها النسوة في حلل مختلفة.
فخاريات وأشكال نحتية تشهد أحداث إزاحات واضحة المعالم في الشكل والجوهر. حيث يتمثل جوهر القضية في قيمة المنطلقات التي تجذرت في واقع البيئة الشعبية والريفية والتي تمثلت في موضوعات المرأة كعنصر رئيسي، وما يحيط بها من مفردات هي عالمها الخاص وما يترتب عنها من اهتمامات شخصية متعلقة بزينتها وجمالها واستخداماتها اليومية .
أجزاء تتوحد بصريا محافظة على ذلك المناخ الفلكلوري، وهذا ما يبرر ربما وجود عدة ألوان مثل الأسود وهو رجع صدى لكحل المرأة ،والأحمر هو ربما حمرة الزينة فهي ترى في جسد الآنية نوعا ما جسدها فتحاول أن تصبغ عليها ممارساتها التجميلية.
فتصبح الفخاريات خلفية طبيعية أمسكت بالتكامل المراد تحقيقيه فأصبحت بالتالي جسدا أنثويا موّشما أخرجتها المرأة في أبهى حلّة زينتها بأدوات زينتها الخاصة من ألوان الكحل والحمرة والحناء .
فكانت فخاريات الجزائر مختلفة قائمة على ثنائية الحركة والتوازن والإيقاع والوحدة، تبدو معالجة المرأة الساذجة للألوان تدفع بقيمة العمل قدما حيث كان نمطها المتضاد من احمر يجاور اسودا ويقابله اصفر تستخدم في مساحة واحدة في تناسق مبهر لا تأخذ صيغة التدرج المتبع، هذه الأجواء اللونية توحي لنا بمناخات احتفالية صاخبة لحفلات الزفاف تتلاءم مع ألوان الزينة النسائية والهيجان والإثارة في بعدهما الأخر، مما يمنح الفخاريات بعدا جماليا ورونقا خاصا لا تشبع العين من مشاهدته، رؤية جمالية تتميز بتنوع الأشكال المقولبة وبثرائها اللوني الذي يكتّنز دفئا وابتهاجا، صمتا وهيجانا ألوان لطالما رافقت المرأة والفلكلور الشعبي .
هذه الفخاريات الجزائرية تأخذ اتجاهين أولهما العنصر الشكلي أو الجسد الطيني ذو الإيحاءات الأنثوية والاتجاه الثاني هو تلك الرموز والزخارف الريفية والتي تشكل عمق الفخاريات تخرج عن إطار الثبات الشكلي إلى فعل متحرك ومتغير الاختيارات من نموذج لأخر وهذا ما يميزها .
تعالج النسوة القبايل الفضاءات بخطوطهن المتقاطعة والمتشابكة لتصبح أحيانا إطارا لزخرفة تتوسطه، يتنوع بسمك مختلف من قطعة لأخرى نضرا لخصوصية كل واحدة.
يخلق الخط الزخرفي الذي يتراء لنا متواصلا نوعا من التوازن اللاشكلي حيث يضع استطالته مقوسة، تتخللها وحدات فلكلورية من أقواس وقباب ورموز أخرى تتوسطها فراغات زادت من جمالية القطع، وأضفت توازنا شكليا على التكوين العام وكأنها نقلة من نقل المنسوج رسمت بدقة وقدرة لافتة .
تقدم النسوة القبايل فخارياتهن في إخراج مبهر تفوح منه رائحة الحناء والكحل والبخور،هي عطر المرأة القبايلية الذي يعج بجمالية مطلقة من كل النواحي، من حيث جمالية الأشكال والألوان والزخارف ولن نبالغ أن قلنا أن فخاريات القبايل هنّ الأكثر إبداعا وتفردا ،وما نراه من خلال هذه النماذج التي تمر أمامنا من قدرة لافتة على التحكم في المساحة وحسن استغلال الزخارف اكبر دليل على ذلك. والأشكال الهندسية التي غالبا ما تكون متناظرة مكونة لخطوط تتكرر باستمرار وكان في هذا التكرار نزعة نحو المركز نحو تمثيل الكون، الذي ترمز له الدائرة التي يحتضنها المربع وينصهر معها ويتعايش فيها كل منهما مع الأخر.
صور اختزلها وجرّدها الذهن ورسمتها اليد، امّتزجت زخارف الصناعات المنسوجة بمادة الطين فأضحت تشكل مشهدية شكلية ولونية تعكس ثراءا وذوقا وقدرة على السفر بهذه الزخارف من مكان لأخر من محمل لأخر، دون أن تفقد جماليتها وندرتها وهذا راجع أساسا إلى الاستعدادات اللامحدودة للمادة الطينية وكرم المحمل المشكل. والذي يتيح الإحاطة به والعمل عليه من جهاته المختلفة، وهي فرصة لبروز الأبعاد الثلاثية والعمق لهذه الزخارف التي كانت سجينة المنسوجة المسطحة والأرضية ليصبح محملها فخاريات ثلاثية أبعاد تمتزج فيها خصوصيات الخزف والنسيج .
سجّل من الزخارف الموروثة والمستبطنة مفردات اختزلها الذهن واكتنزتها الذاكرة، حاكتها تلك الأصابع، زخارف مهاجرة من خيوط المنسوجة إلى خيوط المادة من جسد صوفي إلى جسد طيني كلاهما يتميزان بالليونة والصلابة وبخصائص جمالية مشتركة، كتل وفراغات بين مساحات من الزخارف، تحضر حينا وتغيب أحيانا، فيتعرى جسد الفخاريات للمراوحة بين الملء والفراغ .
وعادة الفراغ هو التعري هو الإغراء لان غياب الزخارف يعني نزع الوشاح عن الجسد ولكن حضوره أيضا لا يحجب فقط بل يفضح لأنه في تناسق الزخرف والتحامه بالجسد الطيني والتفافه بالتفاف الآنية وتتبعه لمسار القطعة بكل تعرجاتها واستدارتها هو تواصل مع الجسد وليس غطاء له، والمتمعن الجيد يلاحظ أن الزخرف الوشاح يساهم في إبراز تفاصيل جسد الآنية ويزيد من إغرائها، كأنه بصدد تلبية أهم رغبات الأنثى"إن المرء لينسى غالبا أن الإنتاج التقليدي يخفي وراءه ماضيا أو بالأحرى مجموعة من الأحداث اليومية وينسى كذلك إن هذا الإنتاج هو وليد سلوك و معرفة تقنية وحدس وتردد ونزوات ...." ربما نزوات ورغبات مكبوتة قد تجد في مادة الطين ممولا جديدا لتتجلى فخاريات موشحة برسوم وزخارف لتكتمل الصورة و يظهر هذا جليا في هذه الأمثلة المصاحبة للنص.
هذه الأمثلة القبايلية تبين مدى بلاغة هذه الزخارف في شحن الفضاءات والترميز، عندما تخرج من المسطح لتعطي دلالات أخرى إضافية لما قدمته على سطح المنسوجات حيث تتشكل وتختلف من أنية لأخرى حسب الشكل العام وفق قواعد متبعة، وهذه أهم القواعد التي يمكن رصدها :
"- الإشعاع : وهو أن ينطلق الزخرف من المركز ويشع نحو أطرافه تعتمد أساسا في زخرفة الأطباق
- والتراكز : هو تسلسل دائري يقوم على دوائر متعددة المركز
-التسلسل الخطي: ويعتمد على التكرار ليعطي أفاريز مختلفة
-التعاقب: هو تعاقب أفاريز مختلفة الزخارف
-التناظر: قوم على جملة تشكيلات:- تناظر ثنائي زهري
- تناظر معماري
-تناظر تربيعي
-تناظر تربيعي دائري
-تناظر نجمي تربيعي
-التشابك:ويعني تشابك المفردات ويعطي:
-تشابكا زهريا مركزيا
-تشابكا نجميا لا متناهيا
-تشابكا تربيعيا
-تشابكا تربيعيا نجميا"
فتصبح الفخاريات الموشحة ذات قدرات إيحائية لافتة حيث يصبح الشكل العام للقطعة بدوره علامة دالة وفاضحة لهويتها، لترسم بالتالي المرأة حدودا جغرافية لهذه الممارسة بحيث يمكن تمييزها بسهولة عن ما ينتج في تونس وكما سنرى الأسبوع المقبل في المغرب.
والإبداع يتجاوز أن تكون الفخاريات مجرد حامل لرموز، فالمتأمل الجيد والعين الباحثة يمكن لها أن تجد في الشكل المقولب عدة إيحاءات وأسرار، تهمس بصوت خافت يمكن لنا عند الإنصات الجيد سماعها تحدثنا عن علاقة حميمة بين الجسد والعلامة والجغرافيا، هذا لا ينفي عنها بعدها و وظيفتها الأم .

هوامش

نور الدين الهاني ، نفس المصدر السابق ص 53
الناصر البقلوطي ، الحياة الثقافية ، مقالة حول الثقافة المادية الشعبية ، جوان 2006، ص18

دلال صماري
باحثة تشكيلية تونسية