نوح ـ عليه السلام (7)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين الى يوم الدين .نكمل بقية قصة نوح ـ عليه السلام ـ من خلال عرض لتفسير آيات من سورة هود ـ عليه السلام .. والله الموفق.
قال تعالى:(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
قوله تعالى:(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) الموج جمع موجة وهي: ما ارتفع من جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح، والكاف للتشبيه، وهي في موضع خفض نعت للموج، وجاء في التفسير: أن الماء جاوز كل شيء بخمسة عشر ذراعاً، (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) قيل: كان كافراً واسمه كنعان، وقيل: يام، ويجوز على قول سيبويه:(ونادى نوح ابنهُ) بحذف الواو من (ابنه) في اللفظ، وأنشد: (له زجل كأنه صوت حاد)
فأما (ونادى نوح ابْنَهَ وَكان) فقراءة شاذة، وهي مروية عن علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ وعروة بن الزبير، وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد (ابنها) فحذف الألف كما تقول: (ابنه) فتحذف الواو، وقال النحاس: وهذا الذي قال أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها، والواو ثقيلة يجوز حذفها، (وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ) أي: من دين أبيه، وقيل: عن السفينة، وقيل: إن نوحاً لم يعلم أن ابنه كان كافراً، وظن أنه مؤمن ولذلك قال له: (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) وكان هذا النداء من قبل أن يستيقن القوم الغرق، وقبل رؤية اليأس، بل كان في أول ما فار التنور، وظهرت العلامة لنوح، وقرأ عاصم:(يا بني اركب معنا) بفتح الياء، والباقون بكسرها، وأصل (يا بني) أن تكون بثلاث ياءات (ياء التصغير، وياء الفعل وياء الإضافة) فأدغمت ياء التصغير في لام الفعل، وكسرت لام الفعل من أجل ياء الإضافة، وحذفت ياء الإضافة لوقوعها موقع التنوين، أو لسكونها وسكون الراء في هذا الموضع، هذا أصل قراءة من كسر الياء، وهو أيضاً أصل قراءة من فتح، لأنه قلب ياء الإضافة ألفاً لخفة الألف، ثم حذف الألف لكونها عوضاً من حرف يحذف أو لسكونها وسكون الراء، قال النحاس: أما قراءة عاصم فمشكلة، قال أبو حاتم: يريد يا بنياه ثم يحذف، قال النحاس: رأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن هذا لا يجوز لأن الألف خفيفة، قال أبو جعفر النحاس: ما علمت أن أحداً من النحويين جوز الكلام في هذا إلا أبا إسحاق فإنه زعم أن الفتح من جهتين، والكسر من جهتين فالفتح على أنه يبدل من الياء ألفاً، قال الله عز وجل إخباراً :(يَا وَيْلَتَا) (هود ـ 72)، وكما قال الشاعر:(فيا عجباً من رحلها المتحمل).
فيريد يا بنيا، ثم تحذف الألف، لالتقاء الساكنين، كما تقول: جاءني عبدا الله في التثنية، والجهة الأخرى أن تحذف الألف لأن النداء موضع حذف، والكسر على أن تحذف الياء للنداء، والجهة الأخرى على أن تحذفها لالتقاء الساكنين.
قوله تعالى:(قَالَ سَآوي) أي: ارجع وانضم، (إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي) أي: يمنعني (مِنَ الْمَاءِ) فلا أغرق، (قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي: لا مانع فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار، وانتصب (عَاصِمَ) على التبرئة، ويجوز (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ) تكون (لا) بمعنى (ليس) (إِلاَّ مَنْ رَحِمَ) في موضع نصب استثناء ليس من الأول أي: لكن من رحمه الله فهو يعصمه، قال الزجاج: ويجوز أن يكون في موضع رفع، على أن عاصماً بمعنى معصوم، مثل:(مَاءٍ دَافِقٍ) (الطارق ـ 6) أي: مدفوق، فالاستثناء على هذا متصل، قال الشاعر:
بطيء القيام رخيم الكلام
أمسى فؤادي به فاتنا
أي:(مفتوناً)، وقال آخر:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أي: المطعوم المكسو، قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيه أن تكون (من) في موضع رفع، بمعنى: لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم أي: إلا الله، وهذا اختيار الطبري، ويحسن هذا أنك لم تجعل عاصماً بمعنى معصوم فتخرجه من بابه، ولا (إنه) بمعنى (لكن)، (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) يعني: بين نوح وابنه، (فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) قيل: إنه كان راكباً على فرس قد بطر بنفسه، وأعجب بها فلما رأى الماء جاء قال: يا أبتِ فار التنور، فقال له أبوه:(يا بني اركب معنا) فما استتم المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة فالتقمته هو وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق، وقيل: إنه اتخذ لنفسه بيتاً من زجاج يتحصن فيه من الماء، فلما فار التنور دخل فيه وأقفله عليه من داخل، فلم يزل يتغوط فيه ويبول حتى غرق بذلك، وقيل: إن الجبل الذي أوى إليه (طور سيناء).
قوله تعالى:(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) هذا مجاز لأنها موات، وقيل: جعل فيها ما تميز به، والذي قال إنه مجاز قال: لو فتش كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها وبلاغة رصفها واشتمال المعاني فيها، وفي الأثر: إن الله تعالى لا يخلي الأرض من مطر عام أو عامين، وأنه ما نزل من السماء ماء قط إلا بحفظ ملك موكل به إلا ما كان من ماء الطوفان فإنه خرج منه ما لا يحفظه الملك، وذلك قوله تعالى:(إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) (الحاقة ـ 11)، فجرت بهم السفينة إلى أن تناهى الأمر فأمر الله الماء المنهمر من السماء بالإمساك ، وأمر الله الأرض بالابتلاع، ويقال: بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع وبلع يبلع مثل حمد ويحمد، لغتان حكاهما الكسائي والفراء، والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء، قال ابن العربي: التقى الماءان على أمر قد قُدِر، ما كان في الأرض وما نزل من السماء فأمر الله ما نزل من السماء بالإقلاع، فلم تمتص الأرض منه قطرة، وأمر الأرض بابتلاع ما خرج منها فقط، وذلك قوله تعالى:(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ) وقيل: ميز الله بين الماءين، فما كان من ماء الأرض أمرها فبلعته، وصار ماء السماء بحاراً .. والله أعلم.
.. يتبع بمشيئة الله.

اعداد ـ أم يوسف