[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]علي عقلة عرسانكاتب وأديب سوري(أعزائي.. ألتمس منكم أن تسمحوا لي اليوم باستراحة معكم، أتحدث فيها عن شيءٍ من الماضي.. فقد أرهقني الحاضر، وتلفَّع المستقبل بمزيد من الضبابية، بل العتمة.. على أن أعود إلى ذاتي الغارقة، هي والوطن والأمة، في سيل الدماء، وبؤس العيش، وأعاصير الشقاء.. فما ألتمسه مجرد غفوة بين كابوسين.. إذ لا يمكن مغادرة الذات، وهي في خضم المُهلكات: الحرب، والمؤامرات، وبؤس السياسات.. وكل ما يعادي العدل، والقيم، والأمن، والسلم، وحق الإنسان في الحياة.فأستعيد بعض ما كان، في طريقي إلى بشكورستان.)* * *مضت ساعتان بالضبط على انطلاق القطار من موسكو في الساعة(16.25) من يوم ٢٦ أيلول/سبتمبر ٢٠٠١، ولم أكد ألتقط أنفاسي، كأنما الخُنَّاق يضغط على حنجرتي، وعيناي في غير مكانهما.. كان ذلك بسبب السرعة والقلق والركض في محطة القطار، لأن انطلاقنا من المطعم في اتحاد كتاب روسيا كان متأخرًا، ومتأخرًا جدًّا. لم نتناول وجبتنا بانتظار أوليج وكان أوليج ينتظرنا حتى ننهي وجبتنا "الغذاء".. تلك معادلة غير مستحبَّة.الطريق إلى محطة القطار كان مزدحمًا بالسيارات، ووصلنا قبل دقائق أربع فقط، من موعد انطلاق القطار من المحطة، وركضنا، ونحن نحمل حقائبنا، حتى العربة السابعة، ثم صعدنا إلى القطار لنأخذ أماكننا في العربة الخامسة، ووصلنا تلك الأماكن عبر ممرات القطار، بعد أن تحرك بزمن، والحقائب تلازمنا ونلازمها.في المقصورة رقم (37/38). من العربة الخامسة من القطار، انكفأت على حقيبتي في الممر، واسترحت قليلًا، كنت أعتقد أن السكَّر قد انخفض في دمي لدرجة كبيرة، فاشتد علي الجهد والإرهاق، ولم أستطع أن أتمالك نفسي: ضغطٌ على الصدر، وضيقٌ في التنفس، وعَرَقٌ يتصبب من الجبين، واضطرابٌ عام...كان القطار يزحف بين أشجار البتولا، وزميلاي قجة والحصني معي في المقصورة، والضيق رفيقي الرابع. التمسنا الشاي الأخضر ليخفض علينا ما نحن فيه.. كانت ابنتي قد أرسلته من باريس، وأنا أرتاح لهداياها، ولتذكّرها لي بما أحب.. وقلت في نفسي إنها تخفف علي هذا الضيق رغم بعدها عني. التمست القدَح الذي اشتريته لهذه الغاية فلم أجده... تذكرت أنه بين ما تركته في موسكو من أمتعة قليلة. رفيق الدرب قدم لي قدحًا، وبعد هنيهة صار لكل منا كأس من الشاي الأخضر، واستمتع معنا بالشاي السيد جانيتشيف، رئيس اتحاد كتاب روسيا، وزوجُه، وأوليج، وآخرون.شعرت أنني أتنفس براحة.. بين فينة وأخرى كنت أنظر من النافذة إلى الغرب الذي تحجُب أشجار البتولا بعضًا من معالم نوره... لم أميّز معالم الريف الروسي إلا بعد أن بدت لنا أول مدينة فيها البيوت الروسية وصليب الكنيسة، إنها مدينة الأديرة والكنائس "كالومنا"، الشهيرة برومانسية شعرائها.. والقباب فيها، ذات طراز خاص، فكالومنا: مدينة الأديرة والكنائس على نهر أوكا بفرعيه، وهو أحد روافد نهر الفولجا. نهر أوكا الذي ينحدر إليه، نهرٌ متوسط العرض، كان في مقدمة هذا المنظر.. مشى القطار فوقه مرتين، كان لـه فرع آخر، أو سد أقيم عليه من ناحية أخرى. كنت أنتظر أن يتوقف القطار لكي نقرأ اسم المدينة مكتوبًا ونرى بعض ملامحها، لكن زحف القطار استمر وتجاوز النهر والمدينة. وأخذَت أسراب البتولا تمر كأنها أفواج من الصبايا المتماثلات في الطول، وبراقع اللّحاء تكشف عن سيقان، وخُمُرٌ فاتحة اللون يتلصص من بينها الضوء.أخذْت أبحث عن نفسي بين أمتعتي وأصدقائي وذاتي... فتحت حقيبتي وأخرجت بعض لوازم السفر، وكتابًا، وأخذت أختلس النظر من النافذة إلى الشمس التي بدأت تنحدر نحو المغيب. أوراق الأشجار المصفرَّة وتلك التي أقرب إلى الاحمرار، ترسم مع الخضرة والنور وامتداد الأفق، لوحة بديعة تحث على أن يحصرها فنان في إطار.في الساعة السابعة والنصف مساءً رُتِّب لنا عَشاء في مطعم القطار، وما إن جلسنا إلى المنضدة حتى بادرنا شخص سمين بقميص داخلي وبنطال بيجاما، بالكلام... أخذ يثرثر ويغني، وبدا أنه يجمع بين السكر والرغبة في اقتحام عالم الآخرين، وفي مقابله كان يجلس آخر أكثر تماسكًا ودماثة، أشيب قليلًا، تبين لي فيما بعد أنه في الخامسة والستين من العمر.رحب الشخص الأول بكوننا عربًا ومسلمين، بعد صدمة لم تدم طويلًا، ذلك لأنه أراد أن يرحب بنا على طريقته، ويسقينا جميعًا من زجاجة الفودكا التي أمامه، ولكن جاينتشف قال لـه: إنهم مسلمون لا يشربون الكحول. لاكَ الرجل كلمات في فمه، ثم انطلق بتصميم نحوي، ثم نحو زميلي الأستاذ قجة الذي استجاب لـه قليلًا... بعد دقائق لم يجد الرجل عندنا ما يتطلع إليه، فانصرف باهتمامه إلى منضدة أخرى، بينما بدأت مصادفة لا يمكن تخيلها.. بدأ الرجل الثاني، الأشيب، حديثه معنا، كان أقرب إلى اللياقة والتحفظ، ولكن في داخله شيء عميق لا يجعله يهدأ... سألنا: هل تعرفون أسوان؟! قلنا نعم. قال من زار أسوان؟! قلت لـه: أنا. قال: أنا وضعت أول قضيب حديدٍ في أول عمودٍ لسد أسوان، وفي آخر عمود فيه، ومددت خط التوتر العالي (500) فولت من أسوان إلى القاهرة، وقد مشيت مصر كلّها في الصحارى والسهول، وكان هناك عطش وإرهاق، ولي في مصر أكثر من ألف صديق.. ثم بدأ يردد أغنية لمغنية مصرية غنت باللغات الأجنبية.. أظنها "حلوة يا بلدي..".توقف القطار في محطة ريزان الساعة 19.38 بتوقيت موسكو، وقبلها كان في مدينة أخرى قريبة منها، ومن الغريب أن يتوقف في محطتين متجاورتين، لا تبعد إحداهما عن الأخرى سوى دقائق قليلة.عرَّفنا الرجل على نفسه: ألبيرت نيكولاييفتش، قضى في مصر سبع سنوات حتى عام 1967، وللمصادفة فإنني مررت من أسوان إلى النوبة وأبي سنبل قبل اقتلاعه ونقله، حيث كنت مع رحلة قبل إقامة السد، وقبل بدء التخزين في بحيرة ناصر، وذلك في عام 1963 وكان الرجل هناك في الوقت ذاته. أخذ الرجل يردد كلامه الذي ينم عن محبة وصدق وصداقة عميقة، ويستعيد كلمات عربية وتعابير، ويمتحن ذاكرته، ويجدد صداقاته، وكأنه يرى فينا الوجوه المصرية التي عرفها وأحبها. كانت تلك لحظة صدق مؤثرة استعدنا فيها جميعًا أيامًا للصداقة السوفيتية العربية. كادت دموع الرجل تنفر من عينيه وهو يحدثنا ويردد كلمات المودة على مسامعنا، ويذكر أم كلثوم، جواز سفر المرور إلى القلوب. كانت تلك لحظة مؤثرة وغريبة... إذ من كان يقدّر أن يلتقي ثلاثة من السوريين في قطار متجه من موسكو إلى أوفا عاصمة بشكورستان، بعاصفة من تاريخ يعود إلى بداية الستينيات من القرن العشرين، يثيرها رجل وضع أول قضيب حديد في عمود، وأقام آخر عماد في سد أسوان العالي؟!، وكان أول القادمين أو من أوائلهم، وآخر المغادرين في عملية بناء ذلك السد العظيم، الذي ترك تأثيرًا كبيرًا في السياسة والاقتصاد والعلاقات، وفي حياة المصريين؟!.. ومن كان يتوقع أن يجمعنا مطعم ذلك القطار، ذي الطاولات العديدة، في طاولتين متجاورتين، ليبدأ حديث وصل الأسماع وقرب القلوب وأعاد صور التعاون والصداقة، ليقرب بين العرب والروس، في أيام كان يحشد فيها الأميركيون عداء للعرب والمسلمين، ويكاد يتخلى كل أصدقاء العرب والمسلمين عنهم، بعد أحداث أيلول/ سبتمبر ٢٠٠١!؟.أعادنا هذا المشهد إلى ساعات وصولنا الأول إلى موسكو حيث دعانا أوليج بافيكين مسؤول العلاقات الخارجية في اتحاد الكتاب روسيا إلى لقاء في اتحاد الكتاب. بعد لقاء قصير بجانيتشيف رئيس اتحاد كتاب روسيا، انتقلنا إلى قاعة متواضعة في الطبقة الثانية من مقر الاتحاد.كان عدد من الكتاب يحتفون فيها بزميل لهم، هو رئيس تحرير مجلة "مُكاتِب روسيا"، نيكولاي داريشنكا... وفي هذا الجو الحميم الخالي من التكلف، كان ترحيب بنا من بعض الكتاب، وجاءت عبارة صادقة وشفّافة ومعبّرة للبروفيسور سيرغي نيبوليسين، أستاذ الأدب الروسي في جامعة موسكو، قال بلذع السخرية الروسية: إن ما يجمعنا نحن الروس والعرب السوريين على الخصوص هو محبتُنا للأميركيين".. ولهذه الجملة مغزاها، بعد تدمير مبنى التجارة العالمي في نيويورك، والهجوم على البنتاجون في 11/9/2001. لقد فهمت المغزى البعيد والخلفية الشاملة لروسيا الشعب في موقفها مما حدث. جملة أخرى أغنت الدِّلالة ووسَّعتها، قالها الأستاذ ذاته: "بعض الأحلام... أو بعض المتخيلين قال إن عدد ضحايا الحادث بلغ ستة ملايين شخصًا"... وكان للرقم دِلالته في التذكير بابتزاز الصهاينة للآخرين عبر "الهولوكوست". وكان لهذا الكلام في توقيته، وفي دلالته وقعه الشديد في نفسي، إذ ثبت أن العداء للولايات المتحدة الأميركية أوسع من الدائرة التي كنت أتخيلها، وأنه متأصل في نفوس كثيرين من بني البشر، نتيجة الممارسات الأميركية ضد الشعوب والدول.. ثم جاءت إضافة، أسجلها من دون أن أسوِّغها، قالها شخص من الحاضرين، في معرض الترحيب بنا، نحن العرب، قال: "يجمعنا معهم موسى".. وربما كان يهوديًّا، وهو كذلك على الأرجح. عدت بذاكرتي إلى المطعم والقطار والشخصيات الروسية الغريبة التي صورها كبار الكتاب... إنها واقعية بدرجة كبيرة، وغريبة بدرجة كبيرة أيضًا.. وهي تعبر عن أبعاد في تكوين شعب.كان مناخ مقطورة القطار "المطعَم" مضطربًا، ونادت امرأة لألبيرت أن يتركنا ويلتحق بطاولتهم... ظننت أنها أشفقت علينا لكثرة ما تكلم... واتضح لي أنها كانت تريد منه أن يذهب إليها ليضع حدًا لتطفل زميله الذي انتقل إلى طاولتهن أو طاولتهم.خرجنا من العربة ـــ المطعم بعد أن التقطنا صورًا مع البيرت، وعانقنا بانفعال شديد...لم أستطع أن أخذ راحتي في العربة. كان الليل قد بدأ يفرش ستاره على ما حولي من بلاد، وتُقت للراحة.. بعد وقت قيل لنا إنه في الساعة (10.30) سوف يتاح مكان أوسع. وكان على زميلي أن ينتظر، إذ إنه خصصت لنا مقصورة برقم (38/37) بسريرين أحدهما فوق الآخر، وحُدِّد لي السرير الأسفل، وحاول هو الصعود إلى السرير الأعلى، فبدا ذلك متعذرًا، لضخامة جسمه، وعدم وجود سُلّم. وكنت أفكر: ماذا لو هبط السرير والرجل فيه علي وأنا نائم؟.. ماذا لو تحرك؟.. ماذا لو وقف القطار فجأة وسقط؟! قال لي إنه سيذهب ملبيًا دعوة أوليج إلى سرير أرضي في مكان آخر، وكان الأمر ليس مؤكدًا.. قلت لـه سوف أنتظرك حتى الساعة العاشرة والنصف، لكي تتدبر أمرك أو تعود إلى سريرك.خرج وبدأت أهيئ نفسي للنوم، أتيح لي أن أتوضأ وأن أصلي في مكان محشور، ولكنني وصلت إلى راحة روحية مقبولة، جعلتني آوي إلى فراشي باطمئنان... وبقيت على درجة من اليقظة حتى الساعة الثانية والنصف، أيقنت بعدها أنه استقر هناك فنمت حتى الساعة السابعة والنصف صباحًا، وخسرت ما كان يمكن أن يميزني الليل به من فكر ورؤية ومتعة، ولم يكن نومي خلوًا من يقظات مفاجئات، على صرخة هنا وصفقة باب هناك، وتوقفٍ مفاجئ للقطار ثم تحرك لـه، يوقظني من غفوة.. ولكن التعب كان يجعلني قادرًا على العودة إلى النوم بين "النَّتْع" والكبح والشد والجذب.في الصباح بحثت عن الشاي، وأخذت شيئًا من الخبز الخاص بمرضى السكري الذي وضعته لي زوجي في الحقيبة، وقست نسبة السكر في دمي إنه (205) هذا شيء جيد جدًا فقد كان بالأمس وأنا ألهث في ممرات المحطة نحو عربات القطار المتجه إلى أوفا، أكثر من ثلاثمئة وتسعين، إنه شيء جيد.كان الصباح مشمسًا وجميلًا... والأشجار المنتشرة على جانبي الخط الحديدي تسمح لنظري بالانفلات من سياجها نحو المدى، ليلتقي أحيانًا بحيرات صغيرة، أكواخًا، نهرًا من روافد الفولجا. توقف القطار في سمارا التي يمر منها أو إلى جانبها رافد عظيم من روافد الفولجا، قال عبدالقادر بفرح طفولي: انظر إنه نهر الفولجا... وانصرف إلى الممر ليصافح النهر التاريخي بحرارة، ولكنه عاد بعد دقيقة ليقول لي: إنه نهر آخر... قال أوليج الذي كان وراءه: إنه من الروافد العظيمة للفولجا. أغرتني زرقة الماء.. وعندما توقف القطار نزلت من العربة واشتريت ثلاثة أكياس صغيرة من الفستق "الفول السوداني"، وعدت للقطار لألتهم بعض تلك الحبوب، وما تيسر لي من حبات البندورة واللبن وما اشتريته من محطة سابقة، وكانت تلك وكأس من الشاي الأخضر إفطاري ليوم الخميس السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول 2001 وأنا أتجه إلى أوفا، مع بداية تسلق القطار لهضاب تفضي إلى مرتفعات الأورال..ثرثر أوليج عن تاريخ للمنطقة، ليس هو تاريخها بل التاريخ الذي قاله عنها، وأشار إلى أننا بدأنا ندخل أراضي لقبائل لم تكن شيئًا، منها قبائل تتارية، وكان ذلك منه ردًّا على سؤالي: هل تجاوزنا الآن الأرض التاريخية لروسيا قبل التوسع القيصري؟نحن نصعد باتجاه الأورال... أوراق الشجر، بصورة خاصة، لفتت نظري. للخريف الذي كان يطرق الأبواب، وقع خاص على البصر في طبيعة هذه المنطقة. لم أستطع الكتابة... دخل زملائي وبدأنا الحديث، ثم تناولنا الشاي والقهوة، وأعلن أوليج بفرحه المصنوع أن العربة التي نحن فيها أصبحت تقريبًا لنا وحدنا، نحن السوريين والوفد الروسي المكون من ستة أشخاص، الذي يتجه إلى أوفا للاحتفال بالكاتب أكساكوف سيرجي تيموفييتش 10/1/1791 ـــ 25/9/1859 وباستضافة من المركز الإسلامي ومن دار الإفتاء ورئيس جمهورية أوفا.وصلنا إلى أوفا في الساعة السادسة وخمس وعشرين دقيقة بتوقيت موسكو، الثامنة وخمس وعشرين دقيقة بتوقيت أوفا، وكان في استقبالنا شخص قصير القامة أشقر، شعره أشقر على أشيب، متوسط كثافة الذقن ومعه آخرون. تبينت البشكيريين من بينهم بلون الشعر الأسود والسمرة المائلة إلى البياض. ومن محطة القطار توجهنا إلى الفندق.* * *في الصباح التالي، صباح الجمعة 28/9/2001 تناولنا طعام الإفطار في الفندق ثم توجهنا إلى مدينة بليبي مسقط رأس أكساكوف. كان الصباح جميلًا مشمسًا، وأشجار البريوزا تنتشر أسرابًا وتمتد أحيانًا غابة. بعد ساعتين من السفر بحافلة متوسطة الحجم توقفنا للاستراحة على مقربة من غابة، دخلتها مثلهم، وفوجئت بشجرة الريبينا... لم أكن أعرفها ولكن ثمرها شدني إليه، استمتعت بمنظر الأشجار والزهور البرية في الغابة، وتعرفت على طبيعة جميلة جديدة علي، وعلى ثمر بزهر جميل هو من غذاء الذئب "الجيمالا" يشبه الأقراط الجميلة.. ولم تطل هذه الوقفة فقد استأنفنا السير قبل أن يدخل الهواء النقي إلى صدورنا. على مدخل أوفا توقفت الحافلة في الساعة 11.30 بتوقيت أوفا 9.30 بتوقيت موسكو 8.30 بتوقيت دمشق.. وبدأ الطقس الشعبي التقليدي الجميل: تقديم الخبز والملح، مع الأغاني الشعبية الترحيبية، بالملابس التقليدية.. في ذلك الموقع تقدمت نحونا مجموعة من الفتيات، يمثلن أبرز القوميات في المنطقة، بأزياء قومياتهن المميزة: (وفي بشكورستان ١٢٥ قومية أشهرها، أو أكبرها: البشكير، الروس، التتار، الجوفاش، القومية الأقل عددًا)، وكانت كل فتاة ترحب بنا على طريقة أهلها: تَناولنا الخبز والملح، وشربنا حليب الخيل، وبعضهم أخذ البيرة، وقُدمت إلينا حلويات من الصنف الشائع في البلد، لا أذكر اسمها.كانت تلك لحظات طيبة قضيناها مع مستقبلينا، تابعنا بعدها طريقنا إلى وبليبي. بقي طعم حليب الخيل في فمي، وأخذت أستذكر لحظة ما شربت فيها حليب الخيل... نعم.. نعم.. كان ذلك في منغوليا. وقفزت إلى ذاكرتي السهول المنغولية الفسيحة، والخيول الصغيرة الحجم، والجمال بسنامين، والأيام القاسية التي قضيناها في المناقشات الحادة في أولان باتور، عاصمة منغوليا، بشأن استضافة مقر اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا في دمشق... تلك أيام تعود إلى خمس وثلاثين سنة خَلَت.. عادت فجأة بمرارة لحظات وحلاوة لحظات. كان في سربنا يومها في منغوليا: أناتولي سوفرانوف ومعين بسيسو وألكس لاغوما وعبدالرحمن الخميسي وشفيق الكمالي وفيض أحمد فيض من باكستان، "عُرف عندنا باسم فايز أحمد فايز"، وأسيفا هايلي مريام من أثيوبيا.. مؤسف ومؤلم موقف البعض، لكن المناقشات كانت عالية المستوى: دقة لغة، واعتداد بالتاريخ والحضارة والمكانة بين الأمم، وإبداء للاستعداد التام لتقديم ما يحتاج إليه اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا، الذي جمعنا، من خدمات، والانغماس في الفكر السياسي.. كانت تلك الجلسة في أولان باتور شديد الحدة في كل شيء، لدرجة أن تلك اللحظات بقيت وستبقى محفورة في ذاكرتي، لأنها الأصعب من بين الجلسات الكثيرة التي شهدت حوارًا لنا، حول هذا الموضوع امتد في لقاءاتنا لسنوات، وتكرر في عواصم عدة.تركت منغوليا وخيولها وسهولها التي شدتني في لحظة تذكر، وعدت إلى الجمع الذي أنا معه نشرب حليب الخيل، ونأكل الخبز والملح، ونستمع إلى الغناء الشعبي الترحيبي على مدخل أوفا. إن لقاءات الشعوب على المودة والاحترام، تفتح السجل المقابل لصراعات الشعوب على أرضية الحقد والاستغلال والاستعمار، والعداوات الطائفية والمذهبية والعرقية، وتزري به. كانت تضغط علي كلمات جورج بوش الابن: "من ليس معنا فهو ضدنا"، و"سنشن حربًا صليبية مقدسة طويلة"، و"إننا نعلن حملتنا تحت اسم: "العدالة المطلقة"؟من ينسى ذاك الكلام العنصري البغيض، ووقعه على "المتخلفين"،؟! ومن ينسى "حرب العادلين" ووقعها على المظلومين"؟ وحرب "الحرية على العبودية بأنواعها، لا سيما العقلية والروحية"؟ ومن ينسى تلك الشعارات الطنانة؟ نحن لا ننساها، ولن ننساها، لأننا نعرف حقيقة الإدارات الأميركية وممارستها القمعية، التي تقوم بها وهي تضع على وجهها قناعًا يخفي الوجه البشع، والعمق المظلم، لمن يقولون بشيء ويقومون بعكسه، ولمن ينادون بشعار ويوظفون كل ما يتصل به لخدمة أغراضهم ومصالحهم الخاصة، وماديتهم المتوحشة، وعنصريتهم البغيضة.ومن أسف أننا اليوم، نجد في الحرب المجنونة التي تستهدف بلدنا، وأقطارًا في أمتنا العربية، وهويتنا، وديننا، ووجودنا.. نجد شراكات أوسع الإجرام، ودخولًا لدول وقوى كبرى، في حرب تدميرية مجنونة، وفتنة مذهبية وعرقية مأفونة.. لا يقف الروس والأميركيون خارجها، على نحو يميز الدول العظمى، من حيث المسؤولية الأخلاقية، والسياسية، والإنسانية.عذرًا.. يبدو أنني استيقظت بسرعة من "غفوة بين كابوسين"، قبل أن تنتهي الاستراحة، وعاودت الانغماس في خضم المُهلكات: الحرب، والمؤامرات، وبؤس السياسات.. إذ ما باليد حيلة.. فعذرًا.. عذرًا.