أحمد محمد خشبة
قال الحافظ في شرح قوله (صلى الله عليه وسلم):(اغتسلوا يوم الجمعة وإن لم تكونوا جنباً)، قال: معناه: اغتسلوا يوم الجمعة إن كنتم جنباً للجنابة، وإن لم تكونوا جنباً للجمعة، وأخذ منه أن الاغتسال يوم الجمعة للجنابة يجزئ عن الجمعة سواء نواه للجمعة أم لا، وفي الاستدلال به علي ذلك بعد.
الثاني: أنه لا يجزئ ولابد ليوم الجمعة من غسل مخصوص، وهذا قول ابن حزم وجماعة.
قال ابن حزم: برهان ذلك قول الله تعالى:(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)، وقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى)، فيصح يقيناً أنه مأمور بكل غسل من هذه الأغسال، فإذا قد صح ذلك، فمن الباطل أن يجزئ عمل عن عملين أو أكثر.
وحكى ابن حزم هذا القول عن جماعة من السلف منهم جابر بن زيد والحسن وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم وطاووس وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وميمون بن مهران، وقد نقل الحافظ عن أبي قتادة أنه قال لابنه وقد رآه يغتسل يوم الجمعة:(إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلاً آخر للجمعة) ـ أخرجه الطحاوي وابن المنذر وغيرهما.
القول الثالث: أنه لا يجزئ عنه إلا بالنية، أي إذا نوى الكل، قال النووي: وأما إذا وجب عليه يوم الجمعة غسل جنابة فنوى الغسل عن الجنابة والجمعة معاً فالمذهب صحة غسله لهما جميعاً وبه قطع المصنف والجمهور.
واحتج أصحاب هذا القول بقوله (صلى الله عليه وسلم):(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
قال النووي في شرح المهذب:(.. ولو نوى الغسل للجنابة حصل بلا خلاف، وفي حصول غسل الجمعة قولان:أصحهما عند المصنف في التنبيه والأكثرين: لا يحصل، لأن الأعمال بالنيات، ولم ينوه، وأصحهما عند البغوي حصوله، والمختار أنه لا يحصل).
وحمل الحافظ كلام أبي قتادة لابنه علي ذلك، حيث قال في شرح قوله (صلى الله عليه وسلم):(غسل يوم الجمعة)، قال:(.. واستنبط منه أيضاً أن ليوم الجمعة غسلاً مخصصاً حتى لو وجدت صورة الغسل فيه لم يجز عن غسل الجمعة إلا بالنية، وقد أخذ بذلك أبو قتادة فقال لابنه و قد رآه يغتسل يوم الجمعة: " إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلاً آخر للجمعة).
لكن هناك وجه آخر يمكن أن يحمل عليه كلام أبي قتادة غير الإجزاء وعدمه، ألا وهو تحصيل فضيلة مخصوصة لمن يقصد إلى غسل الجمعة وينويه كما جاء عند ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم عن عبد الله بن أبي قتادة قال: دخل علي أبي وأنا أغتسل يوم الجمعة، فقال: غسلك هذا من جنابة أو للجمعة؟ قلت: من جنابة، قال: أعد غسلاً آخر، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلي الجمعة الأخرى).
فائدة:
قال الحافظ في الفتح: حكى ابن العربي وغيره أن بعض أصحابهم قالوا: يجزئ عن الاغتسال للجمعة التطيب، لأن المقصود النظافة.
وقال بعضهم: لا يشترط له الماء المطلق بل يجزئ بماء الورد ونحوه.
وقد عاب ابن العربي ذلك وقال: هؤلاء وقفوا مع المعنى، وأغفلوا المحافظة على التعبد بالمعين، والجمع بين التعبد والمعنى أولى .. انتهى.
وعكس ذلك قول بعض الشافعية بالتيمم، فإنه تعبد دون نظر المعنى، أما الاكتفاء بغير الماء المطلق فمردود، لأنها عبادة لثبوت الترغيب فيها فيحتاج إلى النية ، ولو كان لمحض النظافة لم تكن كذلك .. والله أعلم.
3 ـ التنظيف:
والتنظيف أمر زائد على الاغتسال، جاءت به السنة كما في حديث سلمان مرفوعاً عند البخاري:(لا يغتسل رجل يوم الجمعة و يتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)، والتنظف أمر زائد عن الاغتسال، ويكون بقطع الرائحة الكريهة وأسبابها من الشعور التي أمر الشارع بإزالتها فيسن حلق العانة ونتف الإبط وحف الشارب وتقليم الأظافر، وهذا لا يكون كل جمعة، ولكن يتأكد إذا فحشت، وقد وقّت النبي (صلى الله عليه وسلم) لها ألا تزيد عن أربعين يوماً.
4 ـ استعمال الطيب والدُّهن:
فيسن استعمال الطيب إن وجد، لحديث أبي سعيد قال: أشهد على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(الغسل واجب علي كل محتلم، وأن يستن وأن يمس طيباً إن وجد)، قال عمرو بن سليم راوي الخبر: أما الغسل فأشهد أنه واجب، وأما الاستنان والطيب، فالله أعلم أواجب هو أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث، وبوّب البخاري في صحيحه للحديث بقوله: باب الطيب للجمعة.
قال الحافظ: لم يذكر حكمه أيضاً لوقوع الاحتمال فيه كما سبق.
وقوله (إن وجد) وفي رواية مسلم: (ويمس من الطيب ما يقدر عليه) فهذا يدل علي تأكده كما قال النووي، ويؤخذ من اقتصاره على لمس الأخذ بالتخفيف في ذلك، وجاء في رواية لمسلم (ولو من طيب المرأة)، قال الحافظ: وهو ما ظهر لونه وخف ريحه، قال النووي: فإباحة الطيب للرجل هنا للضرورة لعدم غيره، وهذا يدل على تأكيده والله أعلم.
واختلف العلماء في حكم الطيب، والجمهور أنه سنة وليس بواجب، وحكى القرطبي الإجماع علي ذلك حيث قال في تعليق على الحديث: ظاهره وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعطف، فالتقدير: الغسل واجب، والاستنان والطيب كذلك، قال: وليسا بواجبين اتفاقاً، فدل على أن الغسل ليس بواجب.
وقد اعترض على دعوى الإجماع، حيث نقل الحافظ عن ابن المنير قوله: .. وعلى أن دعوى الإجماع في الطيب مردودة، فقد روى سفيان بن عيينة في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوبه بعض أهل الظاهر.
وأما استحباب الدُّهن فلحديث سلمان الفارسي عند البخاري مرفوعاً:(لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طُهر ويدَّهن من دُهنه، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه و بين الجمعة الأخرى)، وقد بوّب البخاري للحديث بقوله : باب الدُّهن للجمعة .
قال الحافظ :قوله:(ويدَّهن) المراد به إزالة شعث الشعر به، وفيه إشارة إلي التزين يوم الجمعة.
5 ـ استعمال السواك:
وقد دلت السنة على استحباب السواك للجمعة، لحديث أبي سعيد قال: أشهد على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(الغسل واجب على كل محتلم، وأن يستن وأن يمس طيباً إن وجد) ولعموم الأحاديث في استحباب السواك لكل صلاة، وقد بوب البخاري في صحيحه بقوله: باب السواك يوم الجمعة .. قال الزين بن المنير: لما خصت الجمعة بطلب تحسين الظاهر من الغسل والتنظيف والتطيب ناسب ذلك تطيب الفم الذي هو محل الذكر والمناجاة، وإزالة ما يضر الملائكة وبني آدم.
وقال الحافظ في تعليق علي حديث حذيفة:(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام الليل يشوص فاه)، ووجه مناسبته لعنوان الترجمة قال: ووجه مناسبته أنه شرع في الليل لتجمل الباطن فيكون في الجمعة أحرى، لأنه شرع لها التجمل في الباطن والظاهر.
6 ـ تخصيص لباس حسن للجمعة:
لحديث عبدالله بن سلام عن أبي داود وغيره أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(ما على أحدكم إن وجد، أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته).
قال في عون المعبود: والحديث يدل على استحباب لُبس الثياب الحسنة يوم الجمعة، وتخصيصه بملبوس غير ملبوس سائر الأيام.
وقد بوب البخاري في صحيحه باب يَلبس أحسن ما يجد، وأورد فيه حديث ابن عمر:(أن عمر رأى حلة سِيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة)، ووجه الاستدلال من جهة تقريره (صلى الله عليه وسلم) لعمر على التجمل يوم الجمعة، وقصر الإنكار على لبس تلك الحلة لكونها كانت حريراً.
7 ـ التبكير إلي الجمعة:
فيستحب التبكير إلى الجمعة لحديث أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر).
* إمام وخطيب جامع ذو النوريين
[email protected]