[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
علي عقلة عرسان
كاتب وأديب سوري

يا رائحةَ الأرض، أرضنا، متى تعودين إليَّ وأعودُ إليك، جسداً وروحاً نكون، في وحدة تُمجِّد بديع السماوات والأرض، وتضيف إلى الكينونة مذاقاً بنكهة الكون، وتَكْرَع من الصفو الروحاني ما يزيدها صفواً.؟!. متى أستاف منك ما يعيدني إليك، عبيراً يُفغم الغيم، وندى يعانق الخُضرَة فتخضَل، وماءٍ في ذرات الهواء، ينعش الذات بإنعاش خلايا الرأس والقلب..؟! متى أستاف منك، بعدَ وَسْمِيٍّ مُمرِع، طال غيابُه، ما يعيدني إليك بشراً سويا، كما نشأت في حضنك بعد إذْ وُلِدت؟!.. فقد تعبت يا أرضنا من رائحة الدم البشري، تفوح من نزيز جروح بعد جروح، عبر ترابك الطهور، فتنهك مني العين والقلب والروح.. لقد تعبت، وفقدت القدرة على الاحتمال.. فكل ما حولي، وكل ما يصلني عبر فضاءات زاخرة: بالصور الأهوال، والوحشي من الأفعال، والفاسد من الأقوال.. كله يفضي بي إلى ضَعفِ الجسدِ وشقاء الروح، بين ذابح ومذبوح.؟!.. لقد فقدتك يا رائحة الأرض، أرضي.. لم يعد لي من شميم النسيم سوى رائحة الجحيم تشوي الناس أطفالاً ونساء، شيوخاً وشبابا.. وتنشر حرائق العمران، ودخاناً يحجب الرؤية، ويعفِّرُ الأبدان.. لقد فسد الكثير في حضنك أيتها الأرض، ووجدنا أنفسنا نندلق من ذلك الرحم الدافء.. رحمِك.. إلى المجهول المَهول، حيث الغرق في البحار أشداقٌ مفتوحة، ومخيمات اللجوء والنزوح كرامات مسفوحة… لقد افترس الشرُّ الخيرَ فيك، وأفسد عطاءك، وبدَّل أريجك، وأخاف الطَّلَّ فطار، وطمس أشعة النور التي تضيئ الدروب إليك، والدروب إلى الخيرِ والأمن والراحة فيك. يا أمي لم أعد أهتدي في هذا الدُّجى الداجي إلى حضنك الحنون النظيف الجميل الأصيل.. إنني أستعير مصباح اليوناني دويجين، أبحث عن الإنسان في الظهيرة، فلا أجد الإنسان، بل جثة الخير ممزقة بمخالب الشر. أين أنت يا أيتها الأرض الطيبة الخصبة الحنون.. إين أنت فقد رُوِّعنا وجعنا ومُزِّقنا وأُهنّآ؟! أرسلي.. أرسلي نفحاتك العطرة لأهتدِيَ بها إليك، فأنا الوحدة القاتلة، والرعب الذي يمنع النوم، ومجاهل التيه من جوار قوم، إلى جوار قوم.. لا تقولي إنك مثلي في رعب وعجز، فقد يقتل قولك هذا فيَّ ما يشدُّني إليك وإلى البقاء حيًّا ما تبقى من بصيص أمل.
من الرحم جئت، وإلى الرحم أحنُّ وأسعى.. وأنت رحم الحياة كلها أيتها الأرض.. أرضي. أنا منك وإليك، نحن منك وإليك.. نعم.. نعم، منك وإليك. يا أيتها المقترِنة بالروح والراحة والكرامة وسرِّ البقاء.. الطين ظامئٌ للماء، ومن الماء كل شيء حي، وأنت الطين والماء وكل شيء حَي!! فارسلي.. ارسلي شيئاَ منك يهدي إليك، أرسلي رائحة العشب يوقظه الندى في الصباح، زقزقةَ طير مرح في فجرٍ يفوق زهوه مرح الطير.. أرسلي.. أرسلي.. فربما نصحوا من سكَرات الموت، وربما تصحو ضمائر من خُمارٍ طال، فكاد يفوت علينا الفَوْت.. أرسلي، فربما نرسم معالم الطريق إليك، إلى الحياة: "أنت"، فلا حياة لقلب بلا جسد، ولا لجسد بلا روح، ولا لإنسان من دون وطن.. وما يرسله الأشرارُ الذين يكتمون أنفاسنا وأنفاسك الطيبة.. هو شُوظ بعد شُواظ من نار، تحرق أبناءك، وروح الخصب والعطاء فيك، وتحيلنا رماداً على وجهك، وجثثاً في جوفك، وهباءٍ منثورا. أيتها الأرض الطيبة، أرضنا، نحن أبناؤك، نُشوى بالنار، ونُلقي بأنفسنا، رعباً منها، في لُجَجِ البحار.. وليس لنا مأوى فيك، بفعل بعض بنيك.. فكيف السبيل إلى حياة؟!
تعبنا.. تعبنا.. أجمَل ما فيك يا أرض، "يا أرضنا"، أنك حضن الأم لكل الخلق، وأنك حرث من يُحي ويُميت، وأنك للخلق كلهم كِفاتا، أحياء وأمواتا.
فيا رائحة الأرض التي يبعثها المطر عطراً في الأرجاء، ورجاءً للأحياء، فتنعش الأنفس وتعطر الفضاء، كوني بُشرى الخالق لنا برحمته للخلق، فإنك جناحٌ من أجنحة الرحمة.. وإنَّا نحن الزرع المصفرَّ من جفاف، نلهث، ونشهق، في الحرِّ وفي القَرِّ، ونفتح أفواهنا نحو السماء. طلباً للحياة.. الماء.. ونفحاتك أنت بشراه، بشرى الله لخلق الله.. فجودي علينا أيتها الأرض، يا أرضنا، بما أحياك به، لكي نحيا بك.. فنحن أبناؤك، أبناء الأرض، ونحن ملحُها وجرحُها، ومن يحييها ويبنيها.. ونحن تطلُّعٌ إلى الله في السماوات والأرض، ليحيي لنا الأرض، ويحيي بنا الأرض.. فقد ضاقت علينا الدنيا بما رَحُبَت.. والقيظ والنار في القلب والدّار..
القَيْظُ والنِّفطُ والبارودُ يتَّقدُ ما بينَ رملٍ ورمْلٍ، يغرقُ البلدُ
والعينُ ترقبُ زحفَ الحقدِ دامعةٌ والليلُ في القلب، ما في القلبِ مُعْتَقَدُ
الغدرُ أضحى جهاراً يُسْتَظلُّ به لا يرفع الحيفَ غدرٌ عمره الأبدُ
يا أيها الضائعُ الملتاعُ فوق لظى مِنْ صُنع كفِّكَ، أنت السيفُ والكبِدُ
هلَّلا حكمتَ خيوطَ الأمر من ثقةٍ هلَّا فَقِهْتَ، غليلاً كيف يبترِدُ
هلَّا جمعت على وجهٍ شَتاتَ حمى ورَنَّقَتْ منك عينٌ للذي يفِدُ؟!
مَن لي بحكمة جبارٍ أُحَكِّمُها في أمرِ يعربَ حتى يَفْجُرَ الثَّمَدُ
مَن لي بوقفة ذي قارٍ يُجدِّدٌها أبناءُ أمّيَ "قَبْلَن"يصدأَ الزَّرَدُ
مَن لي، ومَن لي.. لست غيرَ مُنى والكون أصبحَ فعلاً أَملكَتْهُ يدُ
والحقُّ سيفٌ. وسيف الحقِّ وشوشةٌ ما بين قلبٍ ونجوى يُجلَبُ الكَمَدُ
* * *
نحن في يومنا وأمسنا، ويبدو أننا في غدنا أيضاً.. من قبضة موبوءة إلى قبضة موبوءة، وليس لنا من أمرنا شيئاً.. و"نحن"، هنا في هذا المقام، تنصرف أكثر ما تنصرف إلى الشعب، الذي له المَقام الأول في الكلام حين يندلق باسمه الكلام، وليس له بالفعل إلا الدم الذي ينزفه، والبؤس والشقاء والموت الذي ينتظره.. في غياهب الظلم، ورعب الحرب، ووحشية الإرهاب، وعذاب العيش في ظل أشكال السلب وأنواع الاستلاب .. ولو أن الشعب خُيِّر لما اختار سوء المصير الذي يفضي إليه، ويديمه، ويستديمه سوءان ولَّادان دَفَّنان: سوء التقدير وسوء التدبير، المرتبطين حكماً بتدني مستويي المعرفة والتفكير، ولما اختار الحرب، ولا فتنة تغلق عليه كل درب غير دربها.
نحن في قبضة الضَّعف الأوهى، والأعداء الأقسى، والمتآمرين الأرخص، والإرهابيين الأشرس، والفاسدين المعوَّمين في أرجاء الوطن الحزين … ولم يعد لنا منَّا، ومن وطننا، ومن أمرنا، إلا أن نقول: لم نمت كلنا بعد، ونحن لا نريد أن نخسر كرامتنا ووطننا ووجودنا، ونريد أن نبقى ليبقى وطنُنا، ولنجدد وجودنا. لكن كيف نفعل ذلك، وقد سُحِبَت أرضُنا من تحت أقدامنا، ونزفت دماؤنا وتنزف ملء أجوافنا، وقرارنا تصادره القوى التي تسرح وتمرح في وطننا، وتزرع وتفلح في نفوس أبناء شعبنا، وتقتل وتدمر وتستثمر وتستعمِر في كل بقعة من أرضنا وأنفسنا؟! وكل شيئ منا ولنا وفينا أصبح، بنظر الآخرين، أنصبة لمن يطمع، ويفزَع، ومن ينتظر في ظلال التشفي أن نركع ونخنع، ليقطع من جسدنا ما يقطع: فللانفصالي الخؤون الغادر نصيب، وللمتآمر المستظِل بالأعداء نصيب، وللأميركي - الصهيوني العدو الألدِّ نصيب، وللروسي الذي يتحدى الأطلسيين عبرنا نصيب، وللغريب المريب نصيب، ولمن يريدها محاصصة مذهبية نصيب، ولكل من يريد أن يكسب الدنيا ويفترش رقاب أهلها نصيب.. ولوحوش الفلاة وكواسر الطير نصيب.. فمن تُراه يبقى لوطن يكون حراً كريماً، وبيتاً مستقلاً يتّسع للجميع، ومن تُراه يبقى لأرض يستثمرها أهلها، وتجود عليهم بعطائها من أجل الجميع؟! إنها الطامة البرى. والأدهى الأمر من كل ذلك فيها، شَمْرَخَة من لا يرون فينا وفيها دويَّها وفتكها، أو يتجاهلون ذلك.؟!
إنه داء الأنفس التي تَمْرَض، فتستعصي على الشفاء وتُمرِض.. ومع ذلك لا تشك في أنها الصحة التامة، والدواء لكل داء، والبرء التام من كل بلاء وابتلاء .؟! والأصعب من هذا ذاك الذي هو "داء الأدواء"، وهو أن الكثيرين يعرفون هذا في نفس أو نفوس، فيتبعونها بعماء، ويزيدونها داء على داء، وعماء على عماء.. فتفرَح، وتُفرْفِح ، وتدرج في معارج الأرض إلى ما تظنه العُلا، وهو ارتماء يُدَحرجٌها من الأدنى إلى التدني، وقد تكرج بذاتها وبغيرها إلى هاوية ما منها من نجاء. إن من حقائق الأمور في الحياة أنَّ في الأنفس بلاء قد يكون لها ولغيرها ابتلاء.. فالنفس أمارة بالسوء، تزهو أو تزدهي مثل خَضراء الدِّمن، إذا لم تُرْدَع.. وهي بهذا تلحق بذاتها وبالآخرين السوء، بل أسوأ السوء.. إذ تتورم بوصفها "أنا"الـ "إنَّا"، حتى ليبدو الورم السرطاني الخبيث المستفحل، مقارنة بها.. داء يمكن أن يُشفِيَ منه الدواء، بينما شفاؤها فناؤها، حيث تفني معها كثيرين، وتدمِّر الكثير. وقد أحسن أبو ذُئيبٍ الهُذَلي الغوص فيها إذ قال:
والنفس راغبة إذا رغَّبْتَها فإذا تُردّ إلى قليل تَقْنَعُ
ولكن .. من أين يأتي الرادع، وأين مو«رات الردع؟!.. فنفسٌ لا يدخلها الإيمانُ بالله لا يدخلُها النور، إذ الإيمان نورٌ، والله نور السماوات والأرض، ومن ينير قلبه ينير دربه.ونفسٌ تُدمنُ الشرَّ وتستطيب العيش في الظلمات، هي نفسٌ يُعْشيها النور، فلا يستطيع تحمل أدنى الأدنى منه، لذا تهرب إلى مزيدٍ من الظلمات.. وأنفسٌ لا يكفيها أن ترفض الآخرين، بل تشهر عليهم السيف، وتستفزهم بالإهانات، وتجرُّهم إلى المهانات.. لا يمكنها أن توفر الأمان ولا الكرامة لغيرها إذا حَكَمَت وتحكَّمت، ولا يمكنها أن توفّره لذاتها فتأمن على ذاتها بين الخلق، لأنها بالظلم تعيش وبالظلم تُقْتَل.. ونفسٌ لا ترى لغيرها حقاً، مثل ما لها من حق، هي الخطر الداهم على الحرية والعدل والناس، ومَعَرَّة في جبين الخلق.
مثل هذه الأنفس لا تعنيها النواهي، ولا تقيم للروادع الماورائية، أو البَعدية أو الاجتماعية أو القنونية وزناً، ولا تعطيها أية قيمة.. فهي لا يعنيها إلا يومها وما تكسب، وكيف تُصَعِّرُ خدَّها للناس، بصرف النظر عن كيف تكسب، وعمّن هم.. فكل شيئ لديها مباح مستباح.. والمهم أن تأمر وتنجح.. وكل النواهي عندها غير ذات معنى، وقد تعني التحريض على الضد من مضمونها الناهي، فأقوال ومحرَّمات من مثل: لا تزهق روحاً، لا تظلم نفساً، لا تفتك فتك الوحش، لا تسرق، لا تَقْهَر، لا تُفْسِد في الأرض، لا تتّهم غيرك بالباطل.. لا.. لا.. إلخ ..… كل ذلك لديها مما لا يشكل اختراقه أمراً ذا قيمة، بل مما يمنحُها المكانة والقيمة. ؟!
فاعجب إن شئت أو لا تعجَب، واغضب إن شئت أو لا تغضب.. فذاك عند أهل السطوة، القسوة، والقوة، النفس الحبلى بالبلوى.. سِيَّان.. إذ من أنت، وما شأنك أنت، وما الذي تشكله، عند أهل ذاك المنطق، وذاك الصنف من أهل الحلِّ والعقد.. أنت؟!
فآهٍ.. آه.. يا رائحة الأرض، أرضي.. التي تعرفني، وأعرفها، ولا يحتاج أحدُنا أن يسأل الآخر: من أنت.. آهٍ يا أمي، يا أرضي، أرض بلادي، أين الطريق إلى أنتِ، أنتٌم، أنتنَّ، نحن، أنا، أنت.؟!