لطالما تساءلنا كثيراً وعلى مدى قرون طويلة، عن حقيقة تلك الأساطير عن الأطفال الذين عاشوا في الغابات والأدغال، وتمكنوا من البقاء على قيد الحياة، كرومولوس وريموس التوأمين الأسطوريين الذي يقال إن ذئبة هي من تولت رعايتهما، بعد أن وجدتهما داخل صندوق على أحد الشواطئ الايطالية. وذلك قبل تأسيس الامبراطورية الرومانية. كما هو الحال مع فتى الادغال ماوكلي الذي رعته مجموعة من الذئاب.بالتأكيد لن ننسى كبيرهم، طرزان، الذي قام برعايته منذ أن مات والداه وتركاه رضيعا وسط الادغال، أحد المخلوقات التي تشبه الغوريلا الى حد ما، لكنها أشد شراسة واكبر حجما، وأكثر ذكاءا، يدعون بالـ"مانجاني"، وهي من علمته أيضا كل مايحتاج لكي يتأقلم مع تلك البيئة الموحشة القاسية، فأولئك الأساطير قد عاشوا حياتهم بعيدا عن أي إتصال مع البشر.دراسات كثيرة أجريت في مجال علم النفس الحيواني، لرفع النقاب عن امكانية حدوث تلك الظاهرة، وهل من المعقول أن يتمكن طفل من النجاة وسط الغابات مع الحيوانات؟، وهل يمكن أن تهتم به الأخيرة بدلا من أن تأكله !، واذا ما حدث ذلك كله هل سيتحول ذلك الطفل الى وحش؟ أم انه سيظل على صفاته البشرية.في عالم السينما، الوضع يختلف كليا، فهو ليس مضطرا للتفسير، الترفيه فقط لاغير. وللرجوع الى طرزان، رجل الغابة أو الفتى القرد، كما يعرف عنه، أو حتى صاحب البشرة البيضاء، كما جاء في رواية مؤلفه الأميركي إدغار رايس بوروس" طرزان القردة"، فالإسم وفقا للغة المانجاني، تنقسم الى كلمتين، طر أو Tar وتعني الأبيض، و زان Zan وهي البشرة.شخصية طرزان ولدت في عام 1912، حينما نشرت أول مغامرة لبوروس، وهي تعد الأكثر شهرة في مجال الأدب القصصي والأعمال الفنية سواء التلفزيونية أو السينمائية، حيث تم انتاج أكثر من 88 فيلما عنها، فضلا عن ظهورها في قصص الكوميك، أو المجلات الهزلية المصورة، ولعب الأطفال والبرامج التلفزيونية والإذاعية والدعايات والملابس والأحذية وغيرها..، وفي وقت ما أصبح بطلا سياسيا في زمن الصراعات العربية ـ الإسرائيلية. حتى ان طرزان بات مصطلح اجتماعي يستخدم للدلالة على القوة الضاربة.إن أغلب الأعمال السينمائية التي تناولت قصة طرزان، عالجتها من منظور نشأته في عالم المانجاني والحيوانات الاخرى وسط الادغال، دون أن تتطرق الى عالمه الانساني، لذا كان لهوليوود رأي أخر اليوم، حيث اقتحمت عالم ذاك البطل الشاب النبيل الانجليزي، لتطل علينا بأحدث نسخة له، بعد غياب دام حوالي 18 عام، نسخة مختلفة عما اعتدناه، تناول جديد للقصة الاسطورية مع الاحتفاظ بنكهتها الاصلية التي لا يمكن اجراء تعديلات عليها، وذلك عن طريق "فلاش باك" يتخلل أحداث الشريط يحكي قصة تربيته وسط المانجاني، المعروفة للجميع .أسطورة طرزان (The Legend of Tarzan): فيلم أكشن ومغامرات أميركي، انتجته شركة Warner Bros Studio، متستندا إلى روايات إدغار رايس بوروس، المستوحاة من قصة حقيقية للمؤرخ الأميركي ذو الاصول الأفريقية جورج واشنطن وليامز، حين سافر إلى الكونغو وأدان المعاملة الوحشية للشعبها على يد مستعمرها ملك بلجيكا أنذاك ليوبولد الثاني.كتب قصة الفيلم آدام كوزاد وكريج برور، بينما أخرجه الانجليزي ديفيد ييتس صانع أخر أربعة أعمال من سلسلة "هارى بوتر"الشيقة، الذي يقرر بعد تخرجه من مدرسة "هوجورتس" للسحر والاعمال المشعوذة، السفر الى القارة الافريقية، بالتحديد لجمهورية الكونغو الديمقراطية، التي كان يطلق عليها الكونغو البلجيكية، وقت الاستعمار البلجيكي، وذلك في مهمة انقاذ اسطورة "طرزان "من الضياع، بعد نجاح مواطنه "ماوكلي" منذ شهور في اعتلاء عرش شباك التذاكر الاميركي لمدة طويلة، حين حقق ايرادات خيالية أنذاك.طرزان الاسطورة الشعبية، الذي يرتبط اسمه بذكريات طفولة الكثير منا، يبدو أن شخصيته أصبحت في طي النسيان، لم يعد يكترث بها أحد تقريبا، يمكن القول أن قصته استهلكت ولم تعد تتضمن شئ جديد، وهو ماتنبه له ييتس ورفاقه، حيث تمكنوا من إعادة صياغة القصة لتتلائم مع متطلبات الجيل الحالي. كما أوضحت مرار في مراجعات سابقة. الجدير ذكره أن أخر عمل سينمائي تناول القصة حمل اسم " Tarzan and the Lost City " أو طرزان والمدينة المفقودة، وصدر في عام 1998، قد فشل فشلا ذريعا، وواجه انتقادات عدة من قبل النقاد، ماأخاف صناع السينما وجعلهم بعيدين عن خوض التجربة لفترة طويلة.حبكة العمل الجديد تميزت عن سابقاتها، حيث رصدنا منذ الوهلة الاولى، ذلك الجشع الاوروبي في نهب ثروات القارة السمراء، والقوة البطشاء التي تستخدمها ضد السكان الاصليين، تحت تهديد السلاح وتسخيرهم للعمل كعبيد، في مشاريعهم الضخمة كبناء مستعمراتهم وسكك قطاراتهم الحديدة التي تسهل توغلهم كما جاء في الشريط.بالطبع الفيلم يعاني مشكلات عدة، فالبرغم من ملامح القوة والثقة التي اعتلت شخصية بطل العمل، خاصة ذلك الشعور الذي يأتيك حين تسمع صرخته "الطرزانية" من بعيد، الا ان ملامح الشخصية القديمة تاهت وسط تشبيهها بأبطال السينما الخارقين الحاليين، كهالك على الارض وايرون مان في السماء.الحوارات بدورها جاءت قليلة جدا، وربما لم يجد المخرج مايشده في الحبكة لتقديم حوار شيق ينتظره المتفرج ويضفي مزيدا من الاثارة الى العمل، كما أفتقر العمل للموسيقى التصويرية، التي تعطي للفيلم أحساس وبعد وعمق.كاميرات ييتس، ومعدات فريقه من التقنيين كانوا على اهبة الاستعداد للبدء بتصوير فضاءات الادغال الواسعة بويلز وإنجلترا، لنجول معه عبر الطبيعة البكر المتناغمة مع صوت المعارك الضارية تارة، والتي يتخللها صوت أقدام الحيوانات في مقدمتهم ملك الغابة واقصد هنا طرزان، وتارة اخرى مع لحظات الهدوء الرومانسية ومن خلفها زقزقة الطيور.الممثل السويدي الوسيم ألكسندر سكارسجارد ، والذي تابعناه في مسلسل " True Blood" او دم حقيقي. يجسد دور الاسطورة طرزان أو "جون كلايتون"، وقد تمكن من لعب الدور ببراعة، خاصة زاوية الصمت الذي تميزت به الشخصية. وللذكر فهو عكف على بناء عضلاته طيلة تسعة أشهر حتى يظهر لنا في تلك الصورة القوية.تشاركه البطولة الممثلة الاسترالية الفاتنة مارجوت روبي، وتجسد دور عشيقته وزوجته "جاين"، حيث مثل الاثنان ثنائياً عاشقاً، تجمعهما قصة حب قوية، كتلك التي وقعت في سفينة التايتانيك .الممثل النمساوي القدير، المتميز بأدوار الشر التي يجيدها بشكل بارع، كريستوف فالتز، ويقوم بشخصية "ليون روم" قائد حملة الاحتلال البلجيكي. بينما يجسد شخصية "جورج واشنطن وليامز"، أيقونة السينما السمراء صامويل ال جاكسون.الحيوانات ايضا احد المشاركين في بطولة الفيلم، والذين اعاد صناع السينما تواجدهم مؤخرا على الشاشات، حيث كانوا أبطال حقيقين في فيلم فتى الادغال الذي عرض منذ شهور، وهو تنوع مطلوب حاليا لإرضاء أكبر شريحة من الجمهور.أسطورة طرزان، إيرادات لامست الـ 200 مليون دولار أميركى منذ عرضه في منتصف يوليو الماضي، ليتخطى بذلك تكاليف ميزانيته البالغة 180 مليون دولار....................................أحداثفي مؤتمر برلين عام 1884، أخذت القوى الاستعمارية العالمية على عاتقها، مسؤولية تقسيم الكونغو الافريقية، ضمن خطة الإطباق والسيطرة على القارة السمراء ونهب خيراتها وتجزئتها حسب مصالحهم، فكان من نصيب ملك بلجيكا ليوبولد الثاني، حوض الكونغو الغني بالثروات الطبيعية، حيث كان له أطماع استعمارية فيها.وبعد 5 سنوات، يصبح الملك مثقلا بديونه اثناء رحلة ارضاء طموحه لاستكشاف مستعمرته الجديدة، وبعد محاولات يائسة لتأمين أجور جنوده وموظفيه، يرسل خادمه الموثوق به روم الى الكونغو، لإيجاد طريقة يحصل بها على الماس ليبيعه ويسدد ديونه. يتزامن ذلك مع محاولات حثيثة من بعض الساسة الانجليز المقربون من ليوبولد، لأحد نبلاء لندن، جون كلايتون الثالث "طرزان"، ابن افريقيا المفضل، للقبول بدعوة الملك زيارة مستعمرته الافريقية وموطن كلايتون الاصلي، لتقييم أنشطته بها، وعن طريقها سيفتح مناقشة مع ملكة انجلترا حول التجارة، واقناعها بتوسيع تجارتها في الكونغو تحت ادارته....................................فخيتغير مصير الدعوة من معارضتها الى تلبيتها، وذلك بفضل الدبلوماسي الاميركي، والناشط الحقوقي د. جورج واشنطن وليامز، الذي ينصح كلايتون بالعودة الى الكونغو، ولكن لمعرفة حقيقة ماتفعله ادارة ليوبولد بسكانها، من استعباد وقمع وغيره..، وإنقاذ أصدقائه بموطنه الاصلي.بالطبع نجحت كاميرات ييتس في تجسيد مظاهرالاستعباد والجشع الاوروبي، بداية من مشهد القائد روم وهو يقتلع زهرة سوداء ـ في اشارة الى الافارقة ـ ، مرورا بلقطات العبيد المكبلين بالأغلال داخل عربات القطار التي تحمل أيضا أنياب الافيال العاجية، التي كانت تمثل ثروة اقتصادية هائلة. وأصبحت تلك التجارة محرمة دوليا فيما بعد. وكلها مشاهد توضح الضعف والاذلال الافريقي مقابل قوة المستعمر المستبد.يعود آل كلايتون "جون وجاين" إلى غابات الكونغو ويصطحبا معهما د.وليامز، الذي يعد بحماية الليدي كلايتون، فهو قناص ماهر وسبق أن اشترك مع بلاده في قمعها المكسيكيين والهنود الحمر.وهناك نكتشف أن الدعوة ماهي الا كمين من تدبير روم، حيث أنه أبرم اتفاق مع زعيم قبلي، بتسليمه طرزان مقابل الماس.فخ روم لا يؤتي أكله مع طرزان، لكنه ينجح في اختطاف جاين، وبذلك يرغمه روم على التقافز بين الاشجار والتأرجح بحبالها مجددا، ليجد نفسه في صراع مميت غير متكافئ مع أخيه من المانجاني، الغاضب منه لتركهم، وذلك ليتمكن من العبور.وعلى بعد خطوات من حبيبته المقيدة بداخل مركب روم، يصبح طرزان محاطا برجال الزعيم مبونجا، هذا الرجل الذي أعمى الثأر عينيه، وملأ الحقد قلبه، فكان همه الاول والاخير الانتقام من طرزان على خلفية قتله إبنه بينما قتلت سهام الفتى والدته "المانجاني"، دون التفكير في ماستفعله تلك الماسات المهداة الى البلجيكيين، بشعبه وبوطنه....................................نهاية الغزاةالمواجهة مع بين مبونجا وطرزان ، تحسم لصالح الاخير، الا أنه يتركه دون قتله، في حين يتدخل وليامز ويوضح للزعيم القبلي نوايا البلجيكيين الاستعمارية.ينتهي المطاف بطرزان، الى أن يجمع جيشا من حلفاؤه الحيوانات، يأمرها بتحطيم معسكرات البلجيكيين، وعن طريقها يبث الرعب في قلوب جيش المرتزقة قبل وصولهم الى الشاطئ، ويعرقل خطة روم في اجتياح أولئك الجنود للكونغو، حيث ستصبح حينها مُستعبدة بأكملها.وفي مشهد ختامي طريف بين القائد البلجيكي وطرزان ، يطلق خلاله الاخير نداء للتماسيح، لم يتمكن من فهمه روم، إلا أنه يتضح له في النهاية، حين يصبح وجبة دسمة لهم.أسطورة طرزان.. ليس فيلما تاريخيا يحكي فصل من فصول الاستعمار الاوروبي للقارة السمراء، وإنما محاولة صادقة للتعامل مع تلك المسألة التي شغلت حيزا في اهتمامات الباحثين والمؤرخين، حتى وإن كانت الحبكة تنحي دور الافارقة باستمرار، فالمنقذ انجليزي الاصل "جون كلاتون"، وحينما يمرض بفعل ضربات قوية يتلقاها من أحد المانجاني، تقوم برعايته ابنة مبشر أميركي" جاين"، سيحبها ويتزوجها فيما بعد، حتى أن من ينصحه للرجوع مرة اخرى الى موطنه وانقاذ شعب الكونغو أميركي من أصول افريقية. إلا أنه سيظل عملا شيقا، ممتعا، وعودة قوية لطرزان تقترن بحضور ممتاز لعدد من القضايا.رؤية : طارق علي سرحان [email protected]