أيها القراء الكرام: ان من صفات المتقين (الصبر) وهذه الصفة ذكرها الله تعالى في قوله تعالى:(الصابرين والصادقين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار)(آل عمران).
أيها القراء الكرام: الصبر خلق وصفة أساسية في حياة المؤمن، يُعرف به حقيقة الإيمان وحسن اليقين بالله، وهو كما قال أبو طالب المكي: من كانت التقوى مقامه، كان الصبر حاله .. لأنه به يكون كف الأذى عن الخَلق واحتمال الأذى من الخَلق، وهذه من عزائم الأمور التي يضيق منها أكثر الصدور، فَخُلُقٌ بلغت قيمته أعلى الدرجات لابد أن نتعرف عليه وعلى أنواعه وحالاته وفضائله.
معنى الصبر لغةً: الصَّبْـرُ نقيض الجَزَع، صَبَرَ يَصْبِرُ صَبْـرًا فهو صابِرٌ وصَبَّار وصَبِيرٌ وصَبُور والأُنثى صَبُور أَيضًا بغير هاء وجمعه صُبُـرٌ، وأَصل الصَّبْر الحَبْس وكل من حَبَس شيئًا فقد صَبَرَه، والصبر: حبس النفس عن الجزع.
معنى الصبر اصطلاحًا: الصبر هو حبس النفس عن محارم الله، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره وقيل هو ترك الشكوى من ألم البلوي لغير الله.
وقيل الصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه
وعـرفه ذو الـنون المصـري بأنـه: التـباعد عـن المخالفـات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة.
وحقيقة الصبر: هو خُلُقٌ فاضل من أخلاق النفس يمنع صاحبه من فعل ما لا يَحْسُنُ، ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها وهذه القوة تمكن الإنسان من ضبط نفسه لتحمل المشاق والآلام.
الصبر كاسْمِه مُرةٌ مذاقتُه، صعبةٌ معالجته، حلوة ثمراته؛ فعاقبته طيبة، وذكراه جميلة، وثمراته ممتعة مسعدة في الدنيا والآخرة، فعاجلها في العاجلة ممتعٌ، وآجلها في الآجلة مُسعِد، يتنعم به السعداء في الجنة أبدَ الآباد، كما يشقى تاركو الصبر في الدنيا يوم القيامة في النار وبئس المهاد.
وحثنا ديننا الحنيف على التحلي بالعديد من الصفات التي تهذب النفس، ومن أعظم هذه الصفات هي صفة الصبر، لما لها من أجر عظيم في الدنيا والآخرة، وقد وردت العديد من الأدلة الشريعة سواء في القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة، التي تحث على خلق الصبر وتذكر أهميته وفوائده على الإنسان، ويتجلى ذلك في قول الله جل وعلا:(يا أيها الذين أمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين).
* أقسام الصبر:
للصبر العديد من الأقسام التي يقوم عليها وهي: الصبر على الأوامر والطاعات: ويكون ذلك من خلال معرفة الطريق المستقيم وطريق الحق الذي ينجي الإنسان، فالإيمان الداخليّ بالله تعالى وبكلّ الأوامر والطاعات التي أمر الإنسان بها، تجعل لديه راحة نفسيّة في تقبّل جميع المصاعب والعقبات التي قد تواجهه في حياته، فتذوّق حلاوة الإيمان يجعل من الإنسان إنساناً قوياً وصابراً ومحتسباً عند الله تعالى، وهناك العديد من الطاعات التي فرضها الله تعالى على عباده كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها من الطاعات، فعندما يؤدّيها المسلم ويلتزم بها يشعر بحلاوتها وبراحة نفسيّة لم يحصل عليها عند ترك هذه العبادات، ويتجلّى الصبر في العبادات، عند قيام المسلم بفرض الصيام، فهو ينمّي في نفسه الصبر والتحمّل على الجوع والعطش، وبالتالي الصبر والتحمّل على الشدائد والابتلاءات.
الصبر على المناهي والمخالفات: طبيعة الحياة تحتم على الإنسان السعي في العمل لتوفير جميع احتياجات هذه الحياة، وبذل الجهد من أجل الحصول على الأموال والثروة، وقد حثت التعاليم الإسلامية على القيام بذلك، مع ضرورة أن تكون الطرق المتبّعة في كسب الأموال طرق مشروعة وغير محرمة، وإيمان الإنسان بأنّ الرزق بيد الله تعالى، يدفعه إلى الصبر والقناعة بما يوجد لديه حتى لو كان قليلاً، فهناك الكثير من البشر الذين يطمعون في هذه الدنيا ويسلكون جميع الطرق بغض النظر عن حلالها أو حرامها، بهدف توفير الأموال والحصول عليها، فهم من الأشخاص الذين لا يتحلون بالصبر ويحقّقون رغباتهم بالمخالفات والنواهي.
الصبر على الأقدار: كلّ شيء في هذه الحياة بيد الله تعالى، ومقدّر ومكتوب للإنسان منذ ولادته، وإيمان الإنسان بهذه الحقيقة تسهل عليه العيش بسلام وراحة في هذه الدنيا، ويتجلّى ذلك عند فقد الإنسان لشخص عزيز عليه، يجب أن يتحلّى بالصبر على ذلك، وتقبّل الأمر بكل راحة وإيمان، وتجنّب التذمّر والشكوى لحدوث ذلك؛ لأنّه يؤدّي إلى خسارة الأجر والثواب، والعيش بحياة تعيسة وكئيبة.
مجالات الصبر في القرآن الكريم:
ذكر القرآن الكريم آيات تبين مجالات الصبر المختلفة، وهي وإن كانت محددة في ثلاثة أنواع إلا أنها تندرج تحتها عينات تقاس عليها. حيث قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما:(الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبر على أداء فرائض الله تعالى، فله ثلاثمائة درجة وصبر عن محارم الله تعالى فله ستمائة درجة، وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى فله تسعمائة درجة)، وإنما فضلت هذه الرتبة مع أنها من الفضائل على ما قبلها وهي من الفرائض لأن كل مؤمن يقدر على الصبر على المحارم، فأما الصبر على بلاء الله تعالى فلا يقدر عليه إلا الأنبياء لأنه بضاعة الصديقين، فإن ذلك شديد على النفس.
وتتلخص هذه المجالات فيما يلي:
1 ـ صبر مطلق: جاء في قوله تعالى:(وَالَّذيِنَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجَهِ رَبِّهِمْ ..) (الرعد ـ 22)، فهو صبر مطلق غير مقيد يشمل مجالات الصبر كلها، والباعث عليه مرضاة الله تعالى، وهو ما سماه ابن القيم:(صبر لله وذلك بترك حظوظ النفس ومرادها لما أراد الله).
2 ـ صبر في العبادة: العبادة هي طاعة المولى عز وجل وهي فعل مستمر فيه حبس النفس على مداومتها والقيام بها. ولأن فيها مشقة ومجاهدة وتعب يحتاج العبد فيها إلى صبر وإن كان يأتي بها محبة ورضا. فهي صبر مع الله، أي مع أوامر الله بحيث يدور الإنسان المسلم معها حيثما دارت، فأينما توجهت به الأوامر توجه معها. فهذا الإنسان يكون صبره دائماً مع الله عز وجل حيثما كانت مرضاة الله فهو يصبر، فهو ثبات القلب بالاستقامة معه، قال تعالى:(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) (مريم)، وقال أيضاً:(وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه)، واصطبر الشخص: أي صبر وانتظر في هدوء واطمئنان دون شكوى، نلاحظ أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، والمعنى أن الصلاة تستوجب الصبر للمداومة عليها، وهذا يتجلى في قوله تعالى:(وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة).
كما أن هذه الطاعة تتطلب صحبة أهل الصلاح والصبر معهم، قال تعالى:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف).
ولابد أن نذكر أن "المطيع يحتاج إلى الصبر على طاعته في ثلاثة أحوال:
ـ قبل الطاعة أي العمل: وذلك بتصحيح النية والإخلاص والصبر على شوائب الرياء، وهو من الصبر الشديد عند من يعرف حقيقة النية والإخلاص وآفات الرياء ومكائد النفس؛ وقد نبه النبي ـ صلوات الله عليه ـ إذ قال:(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى).
ـ أثناء العمل: كي لا يغفل عن الله في أثناء عمله .. فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ، ولعله المراد بقوله تعالى:(نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا) (العنكبوت) أي: صبروا إلى تمام العمل.
ـ بعد الفراغ من العمل: إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للسمعة والرياء والصبر على النظر إليه بعين العجب، كما قال تعالى:(وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد).
3 ـ الصبر علي البلاء: وهذا النوع من الصبر كان أشد على أنبياء الله لما عَانَوْهُ من تعنت أقوامهم وعدم تصديقهم لدعوتهم، حيث وردت آيات عديدة تُبَيِّن هذه المعاناة. قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم):(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف)، وكان (صلى الله عليه وسلم) قد لاقى من قومه البأس الشديد مما جعل مَلَك الجبال يخبره أن الله تعالى أمره أن يأتمر بأمر رسوله وأن يُطْبق عليهم الأخشبين إن شاء. فكان حِلْمُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أكبر من غضبه، حيث فَضَّلَ الصبر على هذا الأذى وقال: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا" ثم بين له سبحانه نتيجة هذا الصبر فقال:(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وأُوذُوا حَتَّى جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) (الأنعام).
ولأن المسلمين الأوائل لاقوا تعنتاً وعذاباً شديداص من كفار قريش، فكأنهم تَوَعَّدوا بالانتقام لأنفسهم، فأنزل الله تعالى يُرْشِدهم إلى الصواب فقال سبحانه:(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين) (النحل) بل دلهم على أحسن من الانتقام فقال عز وجل:(وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت)، فصاحب هذا الحظ هو الذي يملك من أخلاق التسامح ما يستطيع به فتح القلوب المغلقة، فَتُقبِلُ على دين الله عن طواعية واختيار.
فالصبر ضياء وبه يميز بين ذوي العزائم والهمم العالية وبين غيرهم من الذين يجزعون عند أول مصيبة، وإن الصبر هو المعيار الحقيقي لقوة إيمان العبد أو ضعفه قال عنه المولى عز وجل:(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وَنَقْصٍ مِنَ الاَمْوَالِ و الاَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الِّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة).
ولذا لابد للمؤمن أن يعلم أن المصيبة تأتي بقدر من الله وعلمه، قال تعالى:(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الاَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَاَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (الحديد)، فهو سبحانه القادر على إنفاذها وهو القادر على دفعها، قال (صلى الله عليه وسلم):(واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء، لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام ورفعت الصحف).
4 ـ الصبر على الشهوات: قال أحد العلماء:الصبر على الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة .. وإما أن تَثْلِمَ عِرضاً توفيره أنفع للعبد من ثَلْمِهِ (أي عرض الإنسان وسمعته)، وإما أن تُذهب مالاً بقاؤه له خير من ذهابه. وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تجلب همّاً وغماً وحزناً وخوفاً لا يُقارب لذة الشهوة. وإما أن تُنسي عِلماً ذِكره ألذُّ من نيل الشهوة (لأن الشهوة الحرام حجاب) وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة (كأن يكون الشخص مُوَفقاً ثم يصبح عديم التوفيق) وإما أن تُحدِث عيباً يبقى صفة لا تزول، فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق)، وفي هذا قال عمر بن الحطاب ـ رضي الله عنه:(وَرُبَّ نَظرةٍ زرعتْ شهوةً، وشهوةُ ساعةٍ أَوْرَثَتْ حُزناً طويلاً).
فالصبر على الشهوة إذن أسهل ألف مرة من الصبر على ما توجبه هذه الشهوة. قال تعالى:(وَمَنَ اَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ. إنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص)، فلا يجب أن يجعل الإنسان معيار حياته فيما يضره وما ينفعه ما مالت إليه نفسه، وإنما المعيار هو ما اختاره الله له.
.. وللحديث بقية.

إعداد ـ محمد عبد الظاهر عبيدو
إمام وخطيب جامع محمد الامين