[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/jawadalbashity.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]جواد البشيتي[/author]
الولايات المتحدة الآن هي دولة مستقلة عن نفط السعودية؛ وهي قاب قوسين أو أدنى من أنْ تكفي نفسها بنفسها نفطيًّا، مُنْتِجَة كل ما يلبي احتياجاتها من هذا المَصْدَر الطاقي. النفط (والغاز) الصخري هو الآن مَصْدَر طاقتها النفطية (والغازية) المتعاظِم؛ والمستقبل له، وللغاز منه على وجه الخصوص. ومع إضافة «المتوقَّع» إلى «المؤكَّد» من احتياطاتها النفطية (والغازية) تغدو الولايات المتحدة الدولة الأولى عالميًّا في حجم الاحتياط.


إذا كانت مصر هِبَة النيل فإنَّ دول «مجلس التعاون الخليجي» الغنية نفطيًّا هي هبة «الذهب الأسود»، الذي إنْ ذَهَبَ لن تبقى هذه الدول على الحال التي هي عليها اليوم منذ عشرات السنين؛ لكنَّ ذهاب «النفط» يجب ألا يُفْهَم على أنَّه «النضوب (النفاد) التَّام» له، آبارًا واحتياطًا؛ فـ»العصر الحجري» لم ينتهِ لـ»نَقْصٍ (ونفاد)» في الحجارة.. لقد انتهى إذ طوَّر البشر أدوات عمل ليست من الحجر؛ و»عصر النفط» سينتهي في طريقة مشابهة، أيْ عندما يُطوِّر البشر مَصادِر طاقة تغنيهم عن النفط مَصْدَرًا للطاقة.. وكان، وما زال، أمرًا مصيريًّا أنْ تتحسَّب هذه الدول ليومٍ لونه لون النفط، آتٍ لا محالة، فتَسْتَثْمِر بـ»القرش الأبيض (أو «الورقة الخضراء»)» ما يكفيها شرور أفول عصر النفط.
وكانت مهمَّة عظيمة وجليلة لم تكتمل بعد إنجازًا؛ وهذه المهمَّة إنَّما هي «جَعْل النفط أداةً لتوليد الثروة»؛ فهذه الدول لم تتعامل مع «الذهب الأسود» إلا على أنَّه «ثروة بحدِّ ذاته»، لا تَسْتَخْرِجه إلاَّ لتبيعه كما هو خارِج من رَحْم الأرض!
شبه الجزيرة العربية كانت في القِدَم بخصائص مناخية وطبيعية تسمح لقاطنيها باتِّخاذ الزراعة أساسًا لتطورهم الحضاري؛ وبفضل تطور حضارتها الزراعية الأساس والقاعدة زاد كثيرًا عدد سكَّان شبه الجزيرة العربية. ومع تنامي «الفائض الغذائي» تنوَّعت كثيرًا أوجه الحضارة في هذه المنطقة؛ فتطوَّرت، على سبيل المثال، حِرَف ومِهَن عدَّة، وعَرَفَت المجتمعات كثيرًا من أشكال «العمل الفكري (الذهني)»؛ وهكذا ازدهرت الحضارة ببعديها المادي والفكري. هذا «السخاء الطبيعي»، والمُتَرْجَم بـ»ازدهار زراعي ـ حضاري»، إنَّما يشبهه اليوم «السخاء الطبيعي النفطي»، مع ما أَنْتَج من «مجتمعات الثراء النفطي» التي تبادَلَت النفط مع كثير من منتجات الحضارة الغربية.
وبين سخاء الطبيعة هذا وسخائها ذاك عانت مجتمعات شبه الجزيرة العربية عواقب وتبعات تبدُّل الظروف والأحوال المناخية والطبيعية بما جَعَلَ «المكان» قوَّة طاردة لسكَّانه إلى حيث يمكنهم البقاء والعيش؛ فأنْتَجَ الجفاف والقحط والتَّصَحُّر.. ظاهرة الهجرات الجماعية للبشر إلى ما وراء تخوم شبه الجزيرة العربية (أيْ الهجرات السامية). وإنَّنا نستطيع معاينة البقية الباقية من هذه الظاهرة في «الفتوحات الإسلامية»؛ فإنَّ كثيرًا من العرب انتقلوا إلى العيش في البلاد التي شملها «الفتح الإسلامي»؛ لكنَّ هذه «الفتوحات» تسبَّبت، في الوقت نفسه، بمدِّ العرب الباقين في أماكنهم في شبه الجزيرة العربية بأسباب اقتصادية للبقاء.
واليوم، نرى شبه الجزيرة العربية تُحْدِق بها مخاطِر مشابهة لجهة عواقبها وتبعاتها؛ فإنَّ «المستودع البشري الضخم» في هذه المنطقة يمكن أنْ يتقلَّص ويتضاءل كثيرًا إذا ما أَنْتَج «الانقلاب النفطي»، الذي يَسْتَجْمِع الآن أسباب وقوعه، قوَّة طاردة للسكَّان من مقيمين ومواطنين؛ وهذا «الانقلاب» ينبغي لنا ألا نفهمه على أنَّه يَعْدِل في معناه «نضوب الثروة النفطية»؛ فإنَّ «العصر النفطي» لهذه الدول يمكن أنْ ينتهي وأرضها ما زالت تحتفظ في جوفها وباطنها ببلايين البراميل من النفط الخام.
في البدء، أيْ عند اكتشاف النفط في شبه الجزيرة العربية، وفي السعودية على وجه الخصوص، كانت الصناعة في الولايات المتحدة في حاجة إلى الوقود النفطي الأجنبي، وكانت الشركات النفطية الغربية طامعة في الثروات النفطية المُكْتَشَفَة في شبه الجزيرة العربية وفي العراق.
ومع استشعار الولايات المتحدة خطر التراجع المستمر والمتزايد في الطلب العالمي على الدولار (بعد التعافي الاقتصادي لأوروبا الغربية واليابان) لجأت إلى السعودية بصفة كونها مَصْدَرًا عالميًّا كبيرًا للطاقة النفطية لتساعدها في إبقاء الدولار على عرش العملات العالمية، وفي تغذية وتقوية الطلب العالمي عليه، فأعلنت السعودية، بموجب تفاهم مع الولايات المتحدة، أنَّها لن تبيع نفطها من الآن وصاعدًا إلا بالدولار؛ وهكذا وُلِدَت سياسة «البترودولار» التي عادت بالنفع الجزيل على الولايات المتحدة.
وتعاظَمَت الأهمية الاستراتيجية للسعودية عند الولايات المتحدة لَمَّا تأكَّد وثبت أنَّ هذه الدولة الأولى عالميًّا في استهلاك النفط، وفي استيراده، ستجد نفسها مضطرة بعد بضع سنوات إلى استيراد كل قطرة نفط تَسْتَهْلِك.. وفي هذا المناخ من الرعب النفطي، اقترحت الولايات المتحدة على السعودية أنْ تستأجِر بعضًا من نفطها الخام؛ وكان هذا الاقتراح يعني عمليًّا نَقْل قسم من النفط الخام السعودي من باطن الأرض إلى أراضي الولايات المتحدة لتخزينه فيها.. ثمَّ وَقَعَت «الثورة»، «الثورة النفطية التاريخية»، أيْ «ثورة النفط الصخري». الولايات المتحدة الآن هي دولة مستقلة عن نفط السعودية؛ وهي قاب قوسين أو أدنى من أنْ تكفي نفسها بنفسها نفطيًّا، مُنْتِجَة كل ما يلبي احتياجاتها من هذا المَصْدَر الطاقي.
النفط (والغاز) الصخري هو الآن مَصْدَر طاقتها النفطية (والغازية) المتعاظِم؛ والمستقبل له، وللغاز منه على وجه الخصوص. ومع إضافة «المتوقَّع» إلى «المؤكَّد» من احتياطاتها النفطية (والغازية) تغدو الولايات المتحدة الدولة الأولى عالميًّا في حجم الاحتياط. إنها الآن الأولى عالميًّا في حجم الاستهلاك؛ وهي توشك أن تكون، إنْ لم تكن قد أصبحت، الأولى عالميًّا في حجم الإنتاج؛ وتجتهد الولايات المتحدة في أنْ تغدو عمَّا قريب الدولة الأولى عالميًّا في حجم الصادرات (ذلك لأنَّ غايتها الاستراتيجية أنْ تحل هي محل روسيا في تزويد أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية بالغاز). وتوصُّلًا إلى أنْ تغدو الأولى عالميًّا في حجم الصادرات النفطية والغازية، تتوفر الولايات المتحدة على تهيئة الظروف والأسباب (المحلية والعالمية) للتحول إلى الدولة الأولى عالميًّا في حجم الإنتاج، مع استمرارها في استيراد النفط من مصادِر «آمنة» و»موثوقة». وهذا الاستيراد الزائد إنَّما يستهدف تمكين الولايات المتحدة من زيادة حجم صادراتها.
الولايات المتحدة، وعملًا بسياسة «ننتصر على خصومنا من طريق جَعْلِهم يقتتلون لا من طريق قتالنا لهم»، لها مصلحة في جَعْل السعودية وروسيا وإيران يتنافسون في تدمير سعر برميل النفط مع ما يترتب على هذا التدمير من أضرار اقتصادية تلحق بالأطراف الثلاثة جميعا.
وعندما يبلغ (أو يتجاوز) هذا التدمير للأسعار حده الأقصى، وهو البيع بسعر يَعْدِل أو يُقارِب كثيرًا الكلفة، قد تلجأ الولايات المتحدة إلى تفجير قنبلتها النفطية التاريخية، فتُغْرِق الأسواق بما خزَّنَتْهُ من النفط، وبالفائض من إنتاجها، فارضةً، من ثمَّ، هيمنتها الطاقية (النفطية والغازية) على العالم، وكأنَّها الحوت النفطي الذي ابتلع الأسماك النفطية الثلاث (روسيا والسعودية وإيران).
عندئذٍ، ماذا سيحل بهذه الدول النفطية العربية التي يأتي القسم الأعظم من موازناتها من بيعها للنفط، والتي نضبت احتياطاتها النقدية نتيجة تمويلها للعجز في موازنتها، ووجدت نفسها مكرهةً على البيع بسعر يقارب، أو يعدل، أو دون، الكلفة؟
لا شكَّ في أنَّ الهجرة الجماعية الأولى من شبه الجزيرة العربية، ستشمل الملايين من المقيمين والأجانب؛ وسيؤدي التراجع الكبير في النمو الاقتصادي إلى «فائض سكَّاني نسبي»؛ وهذا «الفائض» إنَّما يعني أنَّ ملايين من المواطنين قد باتوا فائضين عن حاجة الاقتصاد.
ونحن يكفي أنْ نفكِّر في العواقب والتبعات على هذا النحو حتى نستشعر أهمية وضرورة أن نُعِدَّ أنفسنا، وأن نُعِدَّ العدة، لمواجهة هذا التحدي التاريخي العظيم؛ فالتاريخ قاسٍ لا يرحم؛ ولطالما كانت مأساة الضحية من صُنْع يديها في المقام الأول!