[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
الغريب ذلك أن محمد بوهلال شاب تونسي في الثلاثين، وهو يعيش في فرنسا ـ كما يبدو ـ في انتظار بيان الحقائق ولم يحصل بعد على الجنسية الفرنسية، وكانت جريمته الوحشية ـ كما أفاد كل الشهود ـ لا علاقة لها ظاهريا على الأقل لا بالإسلام ولا بالإرهاب الديني لأسباب عرضها كل من عرفه في تونس وفي فرنسا، وهي أنه لا يؤدي أية فريضة دينية بل ويتناول المخدرات حسب بعض الشهادات...

رغم أن الحدث الأكبر هذا الأسبوع كان فشل المحاولة الانقلابية التي طرأت على الساحة التركية فإني وجدت نفسي أتأمل في وجهين لشابين من تونس شكلا بالنسبة لي محطة تفكير وقراءة.
الأول اسمه محمد بوهلال وهو الذي نفذ الهجوم الإجرامي ضد الأبرياء في احتفالات مدينة نيس الفرنسية ليلة الرابع عشر من يوليو والثاني اسمه رشاد نوارة، وهو رجل أمن تونسي متواضع الدخل شاهد في شبكات التواصل الاجتماعي فيديو تستغيث فيه سيدة تونسية أم لطفل عمره خمسة أعوام والذي لو لم تجر على أذنيه عملية جراحية سريعة يفقد السمع مدى الحياة، فما كان من رشاد إلا أن يعلن عن بيع قطعة أرض، وهي كل ما يملك هيأها لبناء منزل متواضع على نفس شبكات التواصل، وأعلن عن نيته المصممة لمنح المبلغ للأم الملتاعة المسكينة، وهو متأثر أصدق التأثر بحالة الطفل فتحركت بلدية المكان بنفس الشعور الإنساني لتشتري منه قطعة الأرض بخمسة وأربعين ألف دينار (حوالي 25 ألف دولار)، وهكذا تضافرت الجهود لمساعدة الأم وإنقاذ الطفل على أيدي أصحاب الخير. بالطبع كما فهمتم يا قرائي الأفاضل لا يربط بين الرجلين أي رابط ولكنهما بالنسبة لي صنعا الحدث وأثارا التعليقات والتحاليل في صيف هذا العام.
الغريب ذلك أن محمد بوهلال شاب تونسي في الثلاثين، وهو يعيش في فرنسا ـ كما يبدو ـ في انتظار بيان الحقائق ولم يحصل بعد على الجنسية الفرنسية، وكانت جريمته الوحشية ـ كما أفاد كل الشهود ـ لا علاقة لها ظاهريا على الأقل لا بالإسلام ولا بالإرهاب الديني لأسباب عرضها كل من عرفه في تونس وفي فرنسا، وهي أنه لا يؤدي أية فريضة دينية بل ويتناول المخدرات حسب بعض الشهادات، والله أعلم بما في الصدور بالرغم من أن داعش أعلنت أنه من جنودها وأنه نفذ تعليماتها!!! لكن كل المؤشرات تؤكد أن هذا الشاب أقرب للمختل عقليا منه إلى الإرهابي الواضح فحتى مصالح المخابرات الفرنسية والتونسية لم تصنفه في خانة المشبوهين والمتطرفين وهذا ما يثير أسئلة مشروعة! هذا الشاب بعيد حسب جميع الشهادات عن كل تعلق بالدين، ناهيك التطرف فيه كما ثبت من أدوات اتصاله الإلكتروني وشهادات أقربائه وجيرانه. أما المؤكد أنه غير معروف لدى مصالح الاستعلامات بانتماء لأية منظمة أو عصابة، بل إن التفسير المنطقي الذي ذكره أغلب الأقرباء لجريمته النكراء هو طلاقه من بنت خالته والحكم الصادر ضده بالإنفاق على أولاده، ما يبدو أنه وضعه في حالة الرغبة في الانتحار في أعقاب انهيار عصبي لأسباب عائلية محض، وهو ما حصل منذ سنة للطيار الألماني المنهار عصبيا والذي تذكرون أنه أغلق باب القمرة وحده وأسقط طائرة بمائة وخمسين راكبا تابعة لشركة (لوفتنزا وينغ) في رحلة عادية بين أسبانيا وألمانيا فهلك جميع الركاب ضحية إهمال الشركة لفحوص ضرورية لطياريها وبين الحادثتين، كما ترون علاقات كبيرة. فالأول الطيار الألماني قرر الانتحار ولكن بصفة معروفة لدى أطباء الأمراض العقلية، وهي طريقة اختيار الموت بجر ناس آخرين لتسهل عملية الانتحار، وهو تقريبا حسب ظني ما فعله المواطن التونسي بوهلال. ولم يذكر الإعلام أن من بين الضحايا الذين دهستهم الحافلة المجنونة أربعة مواطنين توانسة هم أيضا إلى جانب طفل تونسي لا يزال مفقودا ضحايا هذا العمل الجنوني. فتونس لديها ضحايا أبرياء في هذه العملية النكراء ما يؤكد أن لا حدود جغرافية ولا عقائدية للإرهاب ولا جنسية لمقترفيه، ومقاومة هذه الآفات المعولمة يجب أن تكون معولمة بدون توظيف كيدي ضد حضارة المسلمين أو حضارة المسيحيين أو أية حضارة إنسانية أخرى، فالمسلم تعلم من قرآنه الكريم ورسوله العظيم أن المسلم هو أخ له في الدين، وأن غير المسلم مهما كانت ديانته هو أخ له في الإنسانية. حين أذكر التوظيف اليميني المتطرف لحدث مثل هذا الحدث فإني أسجل مع الجميع الطابع الاستثنائي للعملية الإرهابي؛ة لأننا لأول مرة نجد إرهابيا من صنف غير مسبوق، أي أنه لا يلفت أنظار المخابرات ولا حتى اهتمام أقرب المقربين إليه. فالمسافة أصبحت غير معروفة بين شاب ذي سلوك بعيد عن التدين وبين الإرهابي المصمم على الانتحار بقتل حوالي مئة من الأبرياء المدنيين الذين لا ذنب لهم من أطفال ونساء وكبار السن. هذا أمر طارئ وجديد في المواجهة بين الإرهاب والمجتمعات. أما المواطن التونسي الثاني الذي ذكرته فهو الذي أحيا في نفسي قبسا من نور الأمل التي تعيد الثقة في الشباب التونسي والعربي؛ لأن هذا الرجل الشهم باع كل ما يملك ليمنح أُما تونسية لا يعرفها إلا من خلال فيديو على فيسبوك بريق رجاء بشفاء ابنها، ومثلما يقول العرب عموما والتونسيون خاصة: ما زال الخير في الدنيا. إن الوجهين التونسيين السلبي والإيجابي أنجبتهما نفس الأرض وترعرعا تقريبا في نفس البيئة الاجتماعية، ودرسا على مقاعد نفس المدارس التونسية، لكنهما سلكا طريقين مختلفين، بل متضادين.. ولله في خلقه شؤون.