إنّ المرء المسلم يعملُ العمل راجياً من الله قبوله، فإذا قبل الله عمل الإنسان فهذا دليل أن العمل وقع صحيحاً على الوجه الذى يحب الله تبارك وتعالى، قال الفضيل بن عياض:)إن الله لا يقبل من العمل إلا أخلصه وأصوبه، فأخلصُه ما كان لله خالصاً، وأصوبُه ما كان على السنة( وذكر الله تبارك وتعالى أنه لا يقبل العمل إلا من المتقين:(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ (فكيف يعرفُ الإنسان أن عمله قد قبل وأن الجُهد الذى قام به أتى ثمرته؟.
ذكر علماؤنا الأجلاء أنّ للقبول أمارات، فإذا تحققت فعلى العبد أن يستبشر، والتي منها: استصغار العمل وعدم العجب والغرور به :فإن الإنسان مهما عمل وقدم فإن عمله كله لا يؤدي شكر نعمة من النعم التي في جسده من سمع أو بصر أو نطق أو غيرها، ولا يقوم بشيء من حق الله تبارك وتعالى، فإن حقه فوق الوصف، ولذلك كان من صفات المخلصين أنهم يستصغرون أعمالهم، ولا يرونها شيئاً، حتى لا يعجبوا بها، ولا يصيبهم الغرور فيحبط أجرهم، ويتكاسلوا عن الأعمال الصالحة. ومما يعين على استصغار العمل: معرفة الله تعالى، ورؤية نعمه، وتذكر الذنوب والتقصير.
ولنتأمل كيف أن الله تعالى يوصي نبيه بذلك بعد أن أمره بأمور عظام، فقال تعالى:(يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر). فمن معاني الآية ما قاله الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره.
الخوف من رد العمل وعدم قبوله:(يتقبل الله من المتقين) (المائدة ـ 27)، لقد كان السلف الصالح يهتمون بقبول العمل أشد الاهتمام، حتى يكونوا في حالة خوف وإشفاق، قال الله عز وجل في وصف حالهم تلك:(والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) (المؤمنون 60 ـ 61). وقد فسرها النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل منهم. وأثر عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال:(كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل. ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين) (المائدة ـ 27),
الرجاء وكثرة الدعاء :إن الخوف من الله لا يكفي، إذ لا بد من نظيره وهو الرجاء، لأن الخوف بلا رجاء يسبب القنوط واليأس، والرجاء بلا خوف يسبب الأمن من مكر الله، وكلها أمور مذمومة تقدح في عقيدة الإنسان وعبادته.
ورجاء قبول العمل ـ مع الخوف من رده ـ يورث الإنسان تواضعاً وخشوعاً لله تعالى، فيزيد إيمانه، وعندما يتحقق الرجاء فإن الإنسان يرفع يديه سائلاً الله قبول عمله، فإنه وحده القادر على ذلك، وهذا ما فعله أبونا إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل ـ عليهما الصلاة والسلام ـ كما حكى الله عنهم في بنائهم الكعبة فقال:(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) (البقرة ـ 127).
كثرة الاستغفار: مهما حرص الإنسان على تكميل عمله فإنه لا بد من النقص والتقصير، ولذلك علمنا الله تعالى كيف نرفع هذا النقص فأمرنا بالاستغفار بعد العبادات، فقال بعد أن ذكر مناسك الحج:(ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) (البقرة ـ 199). وأمر نبيه أن يختم حياته العامرة بعبادة الله والجهاد في سبيله بالاستغفار فقال:(إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً)، فكان يقول في ركوعه وسجوده:(سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) ـ رواه البخاري، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقول بعد كل صلاة فيقول:(أستغفر الله) ثلاث مرات.
عدم الرجوع إلى الذنب :فإذا كرِه العبد الذنوب وكرِه أن يعود إليها فليعلم أنه مقبول، وإذا تذكر الذنب حزن وندم وانعصر قلبه من الحسرة فقد قُبلت توبته، يقول ابن القيم فى (مدارج السالكين):(أما إذا تذكر الذنبَ ففرح وتلذذ فلم يقبل ولو مكث على ذلك أربعين سنة) قال يحيى بن معاذ:(مَن استغفر بلسانه وقلبُه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعصية ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول فى وجهه مسدود).
زيادة الطاعة :ومن أهم علامات القبول زيادة الطاعة: قال الحسن البصرى:(إن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئةُ بعدها، فإذا قبل الله العبد فإنه يوفقه إلى الطاعة، ويصرفه عن المعصية، وقد قال الحسن:(يا ابن آدم إن لم تكن فى زيادة فأنت فى نقصان).
الثبات على الطاعة: وللثباتِ على الطاعة ثمرة عظيمة كما قال ابن كثير الدمشقى حيث قال:(لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه يوم القيامة)، فمن عاش على الطاعة يأبى كرم الله أن يموت على المعصية، وفى الحديث:(بينما رجلٌ يحجُّ مع النبي صلى الله عليه وسلم فوكزته الناقة فمات فقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم):(كفنوه بثوبيه فإنه يبعث يوم القيامة ملبّياً).
ويحذر النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ويقول:(لا أعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل على رقبته جملاً له رغاء فيقول يا محمد يا محمد! فأقول قد بلغتك)، وقال عن الرجل الذى سرق من الغنيمة: (إن الشملة التى سرقها لتشتعل عليها ناراً).
طهارة القلب: ومن علامات القبول أن يتخلص القلب من أمراضه وأدرانه فيعود إلى حب الله تعالى وتقديم مرضاته على مرضاة غيره وإيثار أوامره على أوامر من سواه، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يترك الحسد والبغضاء والكراهية، وأن يوقن أن الأمور كلها بيد الله تعالى فيطمئن ويرضى، ويوقن أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليُخطئه، وبالجملة يرضى بالله وبقضائه ويحسن الظن بربه.
إخلاص العمل لله :ومن علامات القبول أن يخلص العبدُ أعماله لله فلا يجعل للخلق فيها نصيباً، لأن الخلق في الحقيقة ما هم إلا تراب فوق تراب، قيل لأحد الصالحين هيا نشهد جنازة فقال: اصبر حتى أرى نيتى، فلينظر الإنسان منا نيته وقصده وماذا يريدُ من العمل، وقد وعظ رجلٌ أمام الحسن البصرى فقال له الحسن: يا هذا لم أستفد من موعظتك، فقد يكون مرض قلبي وقد يكون لعدم إخلاصك.
تذكر الآخرة :ومن علامات القبول نظر القلب إلى الآخرة، وتذكر موقفه بين يدى الله تعالى وسؤاله إياه عما قدم فيخاف من السؤال، فيُحاسب نفسه على الصغيرة والكبيرة، ولقد سأل الفضيل بن عياض رجلاً يوماً وقال له: كم مضى من عمرك؟ قال: ستون سنة، قال: سبحان الله منذ ستين سنة وأنت فى طريقك إلى الله! قربت أن تصل، واعلم أنك مسئول فأعد للسؤال جواباً، فقال الرجل: وماذا أصنع، قال: أحسِن فيما بقى يغفر لك ما مضى وإن أسأت فيما بقى أخذت بما بقى وبما مضى.

إعداد ـ محمد عبدالظاهر عبيدو
إمام وخطيب جامع محمد الأمين