محمد صلى الله عليه وسلم (2)
فارق أبو طالب الدنيا ثم لحقت به السيدة خديجة في عام واحد فاشتدت الأحزان بالنبي )صلى الله عليه وسلم( حتى عرف ذلك العام بعام الحزن .. تجرأ المشركون عليه أكثر من ذي قبل واشتد إيذاؤهم له ولأصحابه.
خرج النبي )صلى الله عليه وسلم( حزينا وكأنه يحمل جبلا من الهموم .. سارت به قدماه إلى الطائف كي يدعو أهلها إلى دين الله بعد أن خذله أهله وآذوه.
دفعته قدماه لأحد الأحياء واستقبله ثلاثة من سادة القوم .. اقترب النبي )صلى الله عليه وسلم( منهم ودعاهم إلى الإيمان بالله وهجر الأصنام .. تغيرت وجوه القوم من الغضب، وسخروا من كلامه، وسلطوا غلمانهم كي يؤذوا النبي )صلى الله عليه وسلم(.
ابتعد الحبيب عن الحي وألقى بجسده إلى جدار بستان ورفع يديه إلى السماء داعياً:(اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس .. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟.. إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟.. إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك ).
ولم يترك الله تعالى نبيه وحده فقد اخترق دعاؤه أبواب السماء، وهبط الأمين جبريل ونادي النبي )صلى الله عليه وسلم( وقال له:(إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك به، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم).
وناداه ملك الجبال فسلم عليه ثم قال:(يا محمد، ذلك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (الجبلين).
فقال النبي )صلى الله عليه وسلم(: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا.
وصعد الملكان وبدأ النبي )صلى الله عليه وسلم( رحلة العودة إلى مكة وقد اشتدت به الأحزان وآلمه عناد قومه وقسوة قلوبهم وإصرارهم على الكفر.
وذات ليلة وبينما النبي )صلى الله عليه وسلم( نائم إذ أيقظه جبريل ـ عليه السلام ـ وأركبه دابة بيضاء ذات جناحين تعرف بالبراق.
انطلق البراق في سرعة رهيبة حتى وصل إلى بيت المقدس بفلسطين في زمن قصير جدا.. دخل النبي )صلى الله عليه وسلم( المسجد الأقصى فوجد جميع الأنبياء ينتظرونه بالداخل فسلم عليهم ثم صلى بهم إماما، وبعد ذلك أحضر جبريل عليه السلام إناءين بأحدهما خمر وبالآخر لبن وقدمهما للنبي )صلى الله عليه وسلم( فاختار اللبن وشربه.
قال جبريل: هديت للفطرة وهديت أمتك يا محمد وحرمت عليكم الخمر.
وعرج بالنبي )صلى الله عليه وسلم( إلى السماء عاليا مخترقاً السحب في سرعة خاطفة لا تدركها الأبصار، وأخذ يرتفع ويرتفع حتى وصل إلى السماء الأولى فرأي آدم عليه السلام فسلم عليه ورحب به.. صعد النبي )صلى الله عليه وسلم( إلى السماء الثانية فالتقي بيحيى وعيسى ـ عليهما السلام .. سلّم عليهما فرحبا به .. وسلم على يوسف ـ عليه السلام ـ في السماء الثالثة وسلم على إدريس ـ عليه السلام ـ في السماء الرابعة، وعلى هارون عليه السلام في السماء الخامسة، وعلى موسى ـ عليه السلام ـ في السماء السادسة، ثم صعد إلى السماء السابعة وسلم على إبراهيم ـ عليه السلام ـ فرحب به.
اقترب النبي )صلى الله عليه وسلم( من عرش الرحمن حتى صارت المسافة بينهما مقدار قوسين أو أدنى، وفي الحال خر ساجداً خاشعاً لله تعالى وفرض الله عليه الصلوات الخمس في اليوم والليلة.
عاد النبي )صلى الله عليه وسلم( إلى مكة في ذات الليلة، ومع نسمات الصباح أخبر قريشا برحلته العجيبة .. تعجب المشركون وتساءلوا في ذهول: كيف يذهب محمد من مكة إلى الشام في ليلة واحدة ونحن نقطع تلك الرحلة في شهرين.
ولجأ الكفار إلى أبي بكر الصديق وقالوا له: زعم صاحبك أنه قد جاء بيت المقدس وصلى فيه ثم رجع إلى مكة.
قال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق.
وأراد النبي )صلى الله عليه وسلم( أن يثبت لهم صدقه فأخبرهم عن قافلة رآها في الطريق أثناء رحلته ووصفها لهم.
لكن القوم ازدادوا عنادا وكفرا وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس .. وحدثت المعجزة فأظهر الله تعالى صورة بيت المقدس أمام النبي )صلى الله عليه وسلم( وحده لأنه لم يكن قد حفظ زوايا وأركان المسجد في رحلته الخاطفة تلك.
استغرق النبي )صلى الله عليه وسلم( في وصف المسجد جزءاً جزءاً وكأنه داخله، وأبى الكفار تصديقه وهتف أبو بكر: صدقت.. أشهد أنك رسول الله.
وأطلق النبي )صلى الله عليه وسلم( على صاحبه أبي بكر منذ ذلك اليوم (الصديق) لتصديقه إياه .. يتبع الحلقة القادمة.

ناصر عبد الفتاح