يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز في سورة الأنعام:(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) )الأنعام ـ 152) هذه الآية المباركة من كتاب الله تعالى: فيها من الوصايا الكريمة والعظيمة الكثير والكثير, ولكننا نركز في هذه المرّة على قوله سبحانه وتعالى:(وإذا قلتم فاعدلوا).
نعم أخي المسلم: ما أحوجنا جميعاً إلى أن نقيم العدل بيننا لأنّ الحاجة إليه شديدة ولقد رسم لنا سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المنهج الذي لو اتبّعناه لصرنا بالفعل من العادلين في القول وفي العمل، فهو القدوة العظمى لنا جميعاً وفي سيرته من المواقف العظيمة الكثير والكثير الذي يبيّن لنافيه العدل في أبهى صوره.
ونذكر هنا موقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) من حاطب بن أبي بلتعة الصحابي الجليل في فتح مكة فلنذكر هذه القصة حتى يتبين لنا العدل في أبهى صورة يروي لنا الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى في صحيحه:(عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال:(بعثتي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبا مرثد والزبير وكلنا فارس قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فأدركناها تسير على بعير لها, حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم), فقلنا: الكتاب, فقالت: ما معي من كتاب, فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً فقلنا: ما كذب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتخرجنّ الكتاب أو لنجردنّك).
فلما رأت الجدّ أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته, فانطلقنا بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال عمر ـ رضي الله عنه: يا رسول الله قد خان الله ورسوله, فدعني فلأضرب عنقه, فقال النبي (صلى الله عليه وسلم):(ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي أنْ لا أكون مؤمنا بالله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي, وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله, فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم), صدق: لا تقول إلا خيراً) فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين, فدعني فلأضرب عنقه فقال: أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم, فقد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم انتهى: من هذه القصة نستفيد عدة أمور منها: أولاً: التثبت من صحة الخبر وقد فعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فقد تم التثبت عن طريق أوثق الطرق والمصادر ألا وهي الوحي، حيث أوحى الله تعالى إلى نبيه محمداً (صلى الله عليه وسلم), بخبر الكتاب الذي أرسله حاطب بن أبي بلتعة مع المرأة, وأخبره بمكان هذه المرأة, ثانياً: التثبت من الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب هذا الخطأ, وهذا الأمر متمثل في قوله (صلى الله عليه وسلم) لحاطب: (ما حملك على ما صنعت؟) وهذا الأمر مهم جداً لأنه قد يتبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذراً شرعياً في ارتكاب الخطأ, وتنتهي القضية عند هذا الحد.
أخي المسلم: العدل بين البشر فيما بينهم واجب, أو هو فضيلة دعا إليها الإسلام, فعلينا أن نعدل في القول وفي الشهادة وقول كلمة الحق, وكذلك العدل بين الأولاد في النظرة, وفي الكلمة, وفي جميع أنواع المعاملات حتى تعم الفضيلة بين المسلمين بعضهم البعض فالمعروف أن كلمة الحق, ثقيلة على لسان من يخاف النطق بالحق, لكن المؤمن الحقيقي, هو الذي لا يخاف في الله لومة لائم وإذا كان الله تبارك وتعالى هو الذي أمرنا بذلك في قوله تعالى:(وإذا قلتم فاعدلوا ..) فمن الواجب على المؤمن أن يُسلّم بأمر الله تعالى, ويقول سمعاً وطاعة، قال تعالى:(إنما كان قول المؤمنين إذا دٌعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) (النور ـ 51)، ونستفيد كذلك من الموقف الذي حدث بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبين حاطب: أنه ربما يكون هناك عذر شرعي يجعل العبد يقع في الخطأ, فعلينا أن نلتمس له العذر طالما, أنه لن يخرج عن الإسلام، فلقد أبدى حاطب بن أبي بلتعة العذر للرسول (صلى الله عليه وسلم) ومع أن هذا العذر لم يكن مقنعاً للرسول إلا أنه طمأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على صدق حاطب, وأنه ما زال مؤمناً، ونستفيد كذلك: أن نجمع حسنات العبد المذنب بجوار فعلته التي فعلها , فقد ينغمر هذا الذنب في بحر حسناته, وهذا هو الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حاطب عندما قال لسيدنا عمر بن الخطاب, عندما استأذن في قتله:(أليس من أهل بدر؟) فقال:(لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
فمعنى هذا: أنه على المسلم قبول عذر أخيه والعفو عنه والصفح إذا هو اعتذر وندم على ما فعل, لأن هناك بعض الناس لا هم لهم إلا أن يتصيدوا للناس السقطات, فيعلنوها عنهم, ويفضحون أمرهم: مع أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أوصانا بأن نستر على المذنب (فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) فمن العدل في القول أن ننصف المظلومين , وننطق بقول الحق إذا طُلب منا ذلك, وفي نفس الوقت نعفو عمن أساء إلينا , ويكون هذا العفو عن مقدرة لا عن ضعف.
والله تعالى لا تخفى عليه خافية وهو يعلم ما في الصدور, فندعو الله العلي القدير أن يوفقنا إلى ما فيه رضاه, ويجعلنا ممن يقيمون العدل في كل شئون حياتنا .. اللهم آمين.

إبراهيم السيد العربي
إمام وخطيب جامع الشريشة / سوق مطرح