سليمان ـ عليه السلام
تولى نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ ملك بني إسرائيل بعد أبيه داود ـ عليه السلام ـ واختصه الله تعالى بالنبوة وأفهمه لغة الطير.
وذات يوم جلس النبي في محرابه يستغفر ربه، وتمنى أن ينتشر دين الله في أنحاء الأرض فيؤمن به جميع البشر .. غضب النبي من الكفار الذين يعبدون الشمس والنار والأصنام، وود أن يطوف العالم بجيش قوى فيهدي العاصين ويرشد التائهين إلى عبادة ربهم الخالق ويردهم إلى الحق.
وأخذ سليمان ـ عليه السلام ـ يعد العدة لجيش قوى مدرب على أحدث فنون الحرب في عصره، فبدأ باستعراض الخيول الأصيلة التي يحبها بشدة، ويستمتع برؤيتها حين تغدو وحين تروح في حركات رشيقة رائعة.
أوشكت الشمس على المغيب وبدأت تودع المملكة فانتاب سليمان غم شديد وندم لأنه قضى وقتاً طويلاً في استعراض خيوله وشغله ذلك عن ذكر الله.
هبّ النبي واقفاً وأسرع إلى محرابه نادماً تائباً، واستغرق في الصلاة والاستغفار، وتمنى أن يمنحه الله ملكاً عظيماً، وألا يمنحه أحداً من بعده فدعاه قائلاً:(.. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (ص ـ 35).
استجاب الله دعاء نبيه فسخّر له الجن يعملون في خدمته ويطيعون أوامره وهم مخلوقات من نار، وسخّر الله تعالى الريح لسليمان ـ عليه السلام ـ فأصبحت طوع أمره، وقيل أنه كان لسليمان بساط ضخم عظيم الاتساع تدفعه الريح فيحلق في السماء وينتقل من بلد لآخر، وسخّر الله تعالى الطير لسليمان فكانت تظلله وجيشه من حرارة الشمس الملتهبة أينما ذهبوا، وتكتشف لهم أماكن المياه في الصحراء.
وأصبح لسليمان ـ عليه السلام ـ جيش من الإنس والجن والطير كلهم مسخرون لخدمته .. كانت الجن تبني السفن والمحاريب، وتنحت بيوتاً في الجبال، وتشيد المدن وتزرع الحدائق، وتستخرج اللآلئ والكنوز من أعماق البحار، والمعادن الثمينة من باطن الأرض، وأنبع الله لنبيه عيناً يتدفق منها النحاس سائلاً فاستخدمه في الصناعة، وازدهرت البلاد في عهد نبي الله سليمان فصارت مملكة عظيمة ذات جيش قوي وحضارة عريقة.
خرج سليمان ـ عليه السلام ـ يوماً بجيشه وحين اقترب من أحد الأودية إذ بنملة تصيح في قومها بلغة النمل وتحذرهم قائلة:( .. يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (النمل ـ 18).
هرعت جماعات النمل إلى جحورها حتى لا تدوسها أقدام الجنود .. تبسم سليمان ـ عليه السلام ـ حين فهم قول النملة، ودعا ربه قائلاً:( .. رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل ـ 19).
وذات يوم بحث سليمان ـ عليه السلام ـ عن الهدهد فلم يجده .. اشتد غضب النبي لأن الهدهد غاب بدون إذنه، وأقسم أن يعذبه عذاباً شديداً، أو يذبحه إن لم يأتِ له بعذٍر يبرر غيابه .. لم يمض وقتٌ طويلٌ إلا وأقبل الهدهد ووقف أمام نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ في خضوع وقال له: كنت في مملكة سبأ حيث أطلعني الله على أمورٍ لا تعرفها وأسرار خطيرة.
قال سليمان ـ عليه السلام: احك لي ما رأيت.
قال الهدهد: انطلقت في الصباح محلقاً في الجو فرأيتني أبتعد وأبتعد قاطعاً مسافات طويلة فوق الجبال والتلال، وإذ بي أرى مملكة عظيمة تحكمها امرأة تدعى بلقيس، ولها قصرٌ رائعٌ وعرشٌ عظيمٌ لكنني وجدتها وقومها يعبدون الشمس ويسجدون لها من دون الله .. لقد أضلهم الشيطان وأغواهم فأنساهم ربهم خالقهم ورازقهم.
قال سليمان ـ عليه السلام:(.. سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) (النمل ـ 27).
كتب سليمان ـ عليه السلام ـ رسالة إلى بلقيس يدعوها إلى الإسلام .. أعطى النبي الرسالة إلى الهدهد، وأمره بتسليم الرسالة إلى بلقيس وأوصاه أن ينتظر بالقصر كي يعرف ما ستفعله الملكة.
انطلق الهدهد مسرعاً إلى مملكة سبأ، ثم تسلل إلى قصر بلقيس، وألقى بكتاب النبي أمام الملكة في قاعة العرش .. التقطت بلقيس الرسالة وقرأتها، ثم جمعت رجال الحاشية وقواد الجيش وقالت لهم: اليوم ألقي إلي كتابٌ كريم .. (..إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل 30 ـ 31) .. إنه يدعونا إلى ترك ديننا، واتباع دينه والخضوع له.
ضج القوم غضباً واحتجاجاً على رسالة سليمان فصاحت الملكة: اهدءوا يا سادة، فما جمعتكم إلا للتشاور في هذا الأمر الخطير، فإنني لا أتخذ قراراً دون مشورتكم.
قال القوم:(.. نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ وَٱلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل ـ 33).
وزعت الملكة نظراتها على الحاضرين وقالت: أبعدوا فكرة الحرب عن أذهانكم .. (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل ـ 34) .. ونحن لا نريد أن نتذوق طعم الذل والهوان بعد العز والنعيم، ولذلك أرى أن نختبر سليمان لنرى أهو نبي كريم أم ملك طامع .. سنرسل إليه بهدية فإن قبلها فهو ملك طامع وإن رفضها فهو نبي كريم.
انطلق رسول بلقيس إلى اليمن وقصّ على مولاته ما حدث، ووصف لها ما رآه من ملك سليمان العظيم وكرمه الشديد، وكيف غضب نبي الله وهدد وتوعد حين رأى الهدايا وقال:(.. أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) (النمل 36 ـ 37).
هتفت بلقيس: سليمان نبي كريم.
وأصدرت الملكة أوامرها إلى قومها فقالت: تجهزوا يا قوم كي نلحق بالنبي سليمان ونسلم بين يديه قبل أن يدهمنا بجيشٍ لا قبل له فيدمر بلادنا ويشتت أهلنا ولن يجدي الندم.
وانطلق ركب بلقيس وقومها إلى بيت المقدس، وحين علم النبي بقرب قدومهم قرر أن يريهم معجزة تؤكد نبوته وتدل على قدرة الله تعالى.
جمع سليمان ـ عليه السلام ـ رجاله وسألهم:(.. يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل ـ 38).
قال أحد الجن:(..أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (النمل ـ 39).
أعرض سليمان ـ عليه السلام ـ عن الجني لأنه يريد إحضار العرش في أسرع وقت ممكن فربما وصلت الملكة قبل أن ينتهي المجلس.
تقدم رجل مؤمن من النبي وقال:(.. ِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ..) (النمل ـ 40).
أشرق وجه النبي من الفرح لان المؤمن سيحضر العرش من اليمن إلى فلسطين في وقت قليل جداً يساوي ما بين غمضة عين وأخرى.
ولم تمض ثوانٍ قليلة إلا وكان العرش مستقراً بهيئته وزينته أمام نبي الله سليمان ـ عليه السلام.
صاح النبي:(.. هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل ـ 40).
ثم خرَّ سليمان ـ عليه السلام ساجدا شاكراً لله على نعمه وفضله، وحين انتهى أمر جنوده أن يغيروا زينة عرش بلقيس، ويبدلوا هيئته وما فعل ذلك إلا ليختبر فطنة بلقيس وتصرفها حين ترى عرشها الذي تركته وراءها في اليمن وقد تغيرت معالمه وصار على غير حالته.
وأمر سليمان ـ عليه السلام ـ ببناء صرح شامخ من زجاج شفاف صاف وملأه بالماء ووضع فيه أنواعاً مختلفة من الأسماك والكائنات البحرية فأصبح الصرح كحوض أسماك هائل الضخامة من ينظر إليه يظنه قطعة من البحر.
وأقبلت بلقيس لتجد رسول سليمان في استقبالها، وحين رأت عرشها أصابتها حيرة شديدة ووقفت تتأمله بذهول وهمست: ياللعجب .. إنه يشبه عرشي .. لا .. لا يمكن أن يكون هو.
وأفاقت من ذهولها حين سئلت: أهكذا عرشك؟.
أمعنت بلقيس النظر في العرش وهتفت غير مصدقة: كأنه هو!.
وأيقنت الملكة بنبوة سليمان ـ عليه السلام ـ حين عرفت الحقيقة فأسلمت وقالت:( .. رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل ـ 44).
مكث النبي في قومه حتى إذا دنت لحظة رحيله دخل محرابه وقام يصلي وكان متكئا على عصاه بينما كان الجن منهمكين في البناء والتشييد .. مات نبي الله سليمان ولم يعلم أحد من الجن أو الإنس بموته إلا عندما أكلت حشرة الأرضة عصاه فسقط على الأرض.
قال تعالى:(فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) (سبأ ـ 14).

ناصر عبد الفتاح