موسى كليم الله (5)
عبر بنو إسرائيل البحر وهبطوا أرض سيناء برفقة نبيهم موسى ـ عليه السلام ـ وانغلق البحر على فرعون وقومه وهم ينظرون.
مر بنو إسرائيل على قوم يعبدون الأصنام ويطوفون حولها فاشتاق بعضهم إلى التماثيل التي تركوها في مصر، وقالوا لموسى ـ عليه السلام:(.. اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) (الأعراف ـ 138).
عاتب النبي قومه، وذكرهم بالذل والعذاب الذي ذاقوه على أيدي فرعون وقومه، وذكرهم بنعمة الله عليهم، وأنه نجاهم وأغرق فرعون وجنوده وهم ينظرون .. ونصح النبي قومه بالتوبة إلى الله وطاعته .. ندم بنو إسرائيل على قولهم وتابوا إلى الله فغفر لهم وعفا عنهم.
واصل بنو إسرائيل السير وحين أوشكوا على دخول فلسطين وجدوا فيها قوماً ضخام الأجسام جبارين فخافوا من بطشهم واستداروا عائدين.
قال رجلان مؤمنان:(.. ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (المائدة ـ 23).
رفض القوم تنفيذ أمر نبيهم وازدادوا عناداً وجبناً وقالوا:(.. يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة ـ 24).
لجأ النبي إلى ربه واشتكى إليه قومه، فاستجاب الله تعالى دعاء نبيه فحرم علي بني إسرائيل دخول فلسطين مدة أربعين سنة، وحكم عليهم أن يتوهوا في أرض سيناء فكانوا يسيرون ليلاً ونهاراً في صحراء سيناء دون أن يهتدوا إلى المكان الذي يريدونه.
ارتعب القوم الظالمون وأيقنوا بالهلاك لأن طعامهم وشرابهم نفذ، لكن الله تعالى لم يتركهم فريسة للجوع والعطش، فأمر نبيه موسى ـ عليه السلام ـ أن يضرب حجراً كبيراً بعصاه فتفجرت منه اثنتا عشرة عيناً يخرج منها ماء عذباً صافياً، وأنزل الله تعالى طيور السلوى الشهية والتي تشبه السمان فكانوا يصطادونها بلا مشقة، ورزقهم الله بالمنّ وهو شراب أشهى من عسل النحل فكانوا يجمعونه من الأشجار ويتناولونه، وظلل الله تعالى عليهم سحاباً يقيهم من حرارة الشمس الملتهبة في صحراء سيناء.
جحد بنو إسرائيل أنعم الله عليهم وسئموا من المن والسلوى، واشتاقوا إلى الأطعمة التي تركوها في مصر، فطلبوا من نبيهم موسى أن يدعو ربه كي يرزقهم بالعدس والبصل والثوم.
عاتب النبي قومه لأنهم أرادوا استبدال الطعام الشهي الذي أنزله الله لهم بأطعمة أخرى.
أراد الله تعالى أن يلقي تعاليم الدين على نبيه موسى ـ عليه السلام ـ فأوحى إليه وأمره بصيام ثلاثين يوماً.
تفرغ موسى ـ عليه السلام ـ للعبادة والصيام، واستخلف أخاه هارون على بني إسرائيل وأوصاه برعايتهم ونصحهم.
وحين انقضت الثلاثون يوما صعد نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ جبل الطور، ونادى ربه لكن الله تعالى أمره بالصيام عشرة أيام أخرى.
مكث النبي أياماً عشراً ثم صعد جبل الطور، ونادى ربه وتمنى رؤيته فقال الله تعالى:(.. لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ..) (الأعراف ـ 143).
وما إن تجلى نور الله للجبل إلا وتزلزل الجبل واندكت أحجاره وغاص في الأرض رهبة وخشية من الله.
وقع موسى ـ عليه السلام ـ مغشياً عليه ولما أفاق خر ساجداً لله تعالى ودعاه قائلاً:( .. سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف ـ 143).
أخبر الله تعالى موسى أنه اصطفاه واختاره وفضله على أهل زمانه واختصه بالنبوة والرسالة وشرفه بالكلام إليه، وأنزل الله تعالى على نبيه موسى ـ عليه السلام ـ ألواحاً مدوناً فيها التوراة والتي تشتمل على أوامر الله ونواهيه ومواعظه لبني إسرائيل وأمره بأخذ الألواح إليهم وتنفيذ ما فيها.
حمل موسى ـ عليه السلام ـ الألواح وعاد مسرعاً إلى قومه، وحين وصل إليهم رأى جماعة منهم يطوفون حول تمثال عجل مصنوع من الذهب، ورأى آخرين يركعون ويسجدون له.
عاتب النبي قومه لأنهم هجروا ربهم وعبدوا صنماً، وذكرهم بأنعم الله عليهم وكيف نجاهم من ذل فرعون وبطشه فأغرقه وجنوده، وهددهم بأن الله سيصب غضبه عليهم إن لم يتوبوا عن فعلتهم.
ندم القوم على معصيتهم واعتذروا إلى نبيهم موسى ـ عليه السلام ـ ثم أشاروا إلى واحد منهم وقالوا: السامري هو الذي صنع العجل وأضلنا.
وكان السامري قد جمع حلى القوم وصهرها ثم صنع عجلاً مجوفاص، وصارت الرياح كلما دخلت إلى جوفه وارتطمت بسطحه المعدني تصدر صوتاً كخوار البقر.
لجأ نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ إلى الله تعالى ودعاه بأن يعيش السامري في الدنيا طريداً مذعوراً وحيداً بلا أهل ولا صديق، فلا يتقرب من أحد ولا يقربه أحد عقاباً له في الدنيا، ووعده الله في الآخرة بالعذاب الشديد.
أحرق نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ عجل السامري ثم ألقاه في البحر وقال لقومه:(إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) (طه ـ 98).
ندم القوم على عبادة العجل وتابوا إلى ربهم لكن الله تعالى رفض توبتهم، وأوحى إلى موسى ـ عليه السلام ـ أنه لن يقبل توبتهم إلا إذا قتل بعضهم بعضاً.
استجاب القوم لأمر ربهم وقُتل كثير منهم وعندئذ تاب الله عليهم.
اختار نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ سبعين عالماً من بني إسرائيل وأمرهم بالتطهر والصيام كي يعتذروا إلى ربهم عن معصية قومهم.
خرج النبي والعلماء إلى طور سيناء في الميعاد الذي حدده الله لهم .. بلَّغ موسى ربه اعتذار قومه وأخذ الله تعالى يأمره وينهاه، وحين انتهى اللقاء طمع العلماء في رؤية الله تعالى فقالوا:(.. يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة ـ 55).
وفي الحال أنزل الله تعالى صاعقة من السماء فأهلكتهم .. قام موسى ـ عليه السلامـ يدعو ربه ويستغفره ويعتذر إليه عن جهل قومه فاستجاب الله دعاءه وأحياهم مرة أخرى.
عاد موسى ـ عليه السلام ـ فرحاً إلى قومه وبشرهم بقبول توبتهم وعرض عليهم تعاليم التوراة التي أنزلها الله لهم مكتوبة على الألواح.
قال القوم: انشرها علينا فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها.
قال موسى ـ عليه السلام: بل اقبلوها بما فيها.
رفض القوم قبول التوراة واستكبروا وعاندوا نبيهم .. لجأ موسى ـ عليه السلام ـ إلى ربه واشتكى إليه قومه فأمر الله تعالى ملائكته فاقتلعوا جبل الطور ورفعوه فوق رءوس القوم، وأمرهم الله تعالى بقبول التوراة وحذرهم من مخالفة تعاليمها وإلا فإنه سيسقط الجبل فوقهم.
أصاب القوم رعب شديد وندموا على عصيانهم وقالوا: رضينا يا رب وقبلنا التوراة.
تعهد الجميع باتباع تعاليم التوراة وخروا ساجدين تائبين لله تعالى فأعاد الخالق الجبل إلى مكانه.
قرب الله تعالى نبيه موسى إليه وكلمه وأنزل عليه التوراة ووهبه العلم لكنه أراد أن يزيده علماً ويبين له أن في الأرض من هو أعلم منه.
أوحى الله إلي موسى وأمره بالذهاب إلى ساحل البحر حيث سيجد عبداً صالحاً اسمه الخضر وقد أعطاه الله علما لا يعلمه موسى .. انطلق النبي إلى ساحل البحر والتقى بالخضر وقال له: أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً.
قال الخضر:(إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) (الكهف ـ 68).
يا موسى.. إن الله وهبني علماً لا تعلمه ووهبك علما لا أعلمه.
قال موسى ـ عليه السلام:(.. سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) (الكهف ـ 69).
قال الخضر: لا تسألني عن أي شيء أفعله حتى أوضحه لك.
وانطلقا يمشيان حتى وجدا سفينة فركبا فيها ورفض صاحبها أن يأخذ منهما أجراً .. أبحرت السفينة وإذ بالخضر يثقبها فاندفعت المياه داخلها وكادت تغرق بركابها.
تعجب موسى من فعل الخضر وقال له: حملنا الناس بدون أجر ثم تكافئهم بإتلاف سفينتهم؟!.
قال الخضر:(.. أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) (الكهف ـ 72).
ندم موسى لأنه نسى وعده للعبد الصالح وقرر ألا يناقشه مرة أخرى.
انطلقا يسيران وفي الطريق وجدا غلاماً يلهو فأمسك الخضر به وقضى عليه.. تألم موسى لما حدث وعاتب الخضر على فعله فقال له:(أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا) (الكهف ـ 75).
ندم موسى مرة ثانية وقال للخضر:( ِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ..) (الكهف ـ 76).
وانطلقا حتى وصلا إلى قرية وقد اشتد بهما الجوع.. طلب الرجلان طعاماً من أهل القرية فرفضوا .. تألم الخضر من بخل أهل القرية وحين هم بمغادرتها رأى جداراً مائلاً يوشك أن يقع .. شمّر الخضر ساعديه وأعاد بناء الجدار.
ازداد تعجب موسى ـ عليه السلام ـ وقال: رفض الناس إطعامنا ثم تبني لهم جدارهم؟!.. من حقك أن تأخذ أجراً.
عندئذ كشف الخضر لموسى ـ عليه السلام ـ حقيقة ما رآه وأثار عجبه .. أما السفينة فكان أصحابها رجالاً مساكين وكان يتعقبهم ملك ظالم كي يستولى على سفينتهم .. رأى الخضر أن يثقب السفينة فيظن الظالم أنها تغرق فينصرف عنها ثم يصلحها أصحابها.
وأما الغلام فكان سيئ الخلق عاقّاً لوالديه المؤمنين وقد أراح الخضر والديه منه بأمر من الله عسى أن يرزقهما ربهما خير منه.
وأما الجدار فكان ليتيمين وقد تركهما أبوهما المؤمنين وفارقا الحياة بعد أن خبآ كنزاً لهما تحت جدار البيت وحين رأى الخضر الجدار متهالكاً خشى أن يقع فيستولى أهل القرية على كنز اليتيمين فبنى الجدار مرة أخرى ليبقى الكنز محفوظاً حتى يكبرا فيأخذاه.
شكر نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ الخضر على ما تعلمه منه وعاد إلى قومه وقد تعلم درساً عظيماً .. مكث نبي الله موسى في قومه وظل ينصحهم ويعلمهم دينهم حتى توفاه الله.

ناصر عبد الفتاح