القارئ الكريم: قال الله تعالى في كتابة العزيز:(إن في ذلك لآيات للمتوسمين) ذكر عدد من أهل العلم أن هذه الآية نزلت في أهل الفِراسة.فما هو تعريف الفراسة؟ قال العلماء إن الفراسة هي: نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن الملتزم بما جاء في كتاب ربه عز وجل وسنّة نبيه محمد )صلى الله عليه وسلم(, يكشف له بعض ما خفي على غيره, مستدلاً عليه بظاهر الأمر فيسدد في رأيه، يُفرّق بهذه الفراسة بين الحق والباطل, والصادق والكاذب دون أن يستغني بذلك عن الشرع. هذه الفراسة هي ما يسميه العلماء بالفراسة الإيمانية، وهذا يكون بحسب قوة الايمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدّ فِراسةً. فمن غرس الايمان في أرض قلبه الطيبة الزاكية وسقى ذلك الغراس بماء الإخلاص والصدق والمتابعة، كان من بعض ثمره هذه الفراسة. عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(:(اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ قول الله تعالى: إن في ذلك لآيات للمتوسمين) وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(: (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم) ـ رواه الطبراني في الأوسط.
وأصل هذا النوع من الفراسة من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير، فلا تكاد فراسته تخطئ قال الله تعالى:(أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) (الأنعام ـ 122).
القارئ الكريم: هذه الفراسة تتكون للعبد بحسب قُربه من الله، فإن القلب إذا قَرُبَ من الله انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه، وكان تلقيه من مشكاة قريبة من الله بحسب قُربه منه، وأضاء له من النور بقدر قربه، فرأى في ذلك ما لم يره البعيد المحجوب. دخل قوم على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وعمر في مقدمة الصحابة ممن عُرِف بالفراسة ـ رضي الله عنه، قال فيه النبي (صلى الله عليه وسلم( كما في صحيح البخاري:(لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس مُحدّثون فإن يك في أمتي فإنه عمر)، ودخل رجل على عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وقد رأى امرأة في الطريق فتأمّل محاسنها، فقال له عثمان: يدخل عليّ أحدكم وأثر الزنى ظاهر على عينيه؟! فقال الرجل: أوحيُّ بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ فقال: لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة.قال أبو شجاع الكرماني: من عمّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وكفَّ نفسه عن الشهوات وغضّ بصره عن المحارم واعتاد أكل الحلال لم تخطىء له فراسة، وقال تعالى:(الله نور السموات والأرض)، قال ابن القيم معقباً على كلام الكرماني وسرّ هذا: أن الجزاء من جنس العمل فمن غضّ بصره عما حرّم الله عز وجل عليه عوّضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسّه الإنسان من نفسه، فإن القلب كالمرآة والهوى كالصدأ فيها فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي عليه، وإذا صدئت لم تنطبع فيها صور المعلومات فيكون علمه وكلامه من باب الحرص والظنون. والفرق بين الفراسة والظنّ أن الظنّ يخطئ ويصيب وهو يكون مع ظلمة القلب ونوره وطهارته ونجاسته، ولهذا أمر تعالى باجتناب كثير منه، وأخبر أن بعضه إثم، وأما الفراسة فأثنى الله تعالى على أهلها ومدحهم في قوله تعالى:(إن في ذلك لآيات للمتوسمين) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وغيره أي للمتفرّسين وقال تعالى):يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم) وقال تعالى:(ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول).
فالفراسة الصادقة لقلب قد تطهّر وتصّفى وتنزه من الأدناس وقرب من الله فهو ينظر بنور الله الذي جعله في قلبه. ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال:(ما تقرب إليّ عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).
فأخبر سبحانه أن تقرّب عبده منه يفيده محبته له فإذا أحبه قرب من سمعه وبصره ويده ورجله فسمع به وأبصر به وبطش به ومشى به فصار قلبه كالمرآة الصافية تبدو فيها صور الحقائق على ما هي عليه فلا تكاد تخطىء، له فراسة فإن العبد إذا أبصر بالله أبصر الأمر على ما هو عليه، فإذا سمع بالله سمعه على ما هو عليه وليس هذا من علم الغيب بل علام الغيوب قذف الحق في قلب قريب مستبشر بنوره غير مشغول بنقوش الأباطيل والخيالات والوساوس التي تمنعه من حصول صور الحقائق فيه، وإذا غلب على القلب النور فاض على الأركان وبادر من القلب إلى العين فكشف بعين بصره بحسب ذلك النور، فاللهم ارزقنا الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل اللهم آمين.

إبراهيم السيد العربي
إمام وخطيب جامع الشريشة/ سوق مطرح