إعداد ـ محمد عبد الظاهرعبيدو:
أيها القراء الأعزاء من صفات المتقين كما قال الله(وبالآخرة هم يوقنون) فإن اليقين شعبة عظيمة من شعب الإيمان , وصفة من صفات أهل التقوى والإحسان , قال تعالى : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 5)(لقمان) واليقين "هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل .
وقال البيهقي: اليقين هو سكون القلب عند العمل بما صدق به القلب فالقلب مطمئن ليس فيه تخويف من الشيطان ولا يؤثر فيه تخوف فالقلب ساكن آمن ليس يخاف من الدنيا قليلا ولا كثيرا
قال بعض العلماء: لا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا من قلبه وبدنه'.
وقال بعضهم: والذي يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات مصداق يقينه، ويجد فيها طمأنينة ضميره. فالآيات لا تنشىء اليقين ، إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها . ويهيئ القلوب للتلقي الواصل الصحيح ..
ولأهمية اليقين فقد نبه الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الركون إلى أهل الشك ومن ليس لديهم اليقين الكامل بالله رب العالمين , قال تعالى:(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) سورة الروم .
كما أمره بمداومة العبادة حتى يأتيه اليقين التام بلقاء ربه والفوز بمرضاته, قال تعالى:(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ*وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) سورة الحجر.
واليقين عده البعض الإيمان كله , قال بعض السلف : الصبر نصف الإيمان، واليقين كل الإيمان, وقال أحد العلماء: اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبة واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم.
وعَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا فِي الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ، وَالْمُعَافَاةِ، فَسَلُوهُمَا اللهَ ، عَزَّ وَجَلَّ.) رواه أحمد
وعَنْ عُمَرَ ، قَالَ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَنَا ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِينَا عَامَ أَوَّلَ ، فَقَالَ : أَلاَ إِنَّهُ لَمْ يُقْسَمْ بَيْنَ النَّاسِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنَ الْمُعَافَاةِ بَعْدَ الْيَقِينِ ، أَلاَ إِنَّ الصِّدْقَ وَالْبِرَّ فِي الْجَنَّةِ ، أَلاَ إِنَّ الْكَذِبَ وَالْفُجُورَ فِي النَّارِ). أخرجه أحمد والنَّسائي.
ولهذا قال أبو بكر الوراق رحمه الله:'اليقين ملاك القلب، وبه كمال الإيمان، وباليقين عُرف الله، وبالعقل عُقل عن الله.
ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : (اللهم قْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ , وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ , وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا , اللهم أمتعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا , وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا , وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا , وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا , وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِى دِينِنَا , وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا , وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا , وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا). أَخْرَجَهُ الترمذي والنَّسَائي عن ابن عمر رضي الله عنه .
ولقد ضرب أنبياء الله ورسله الكرام المثل الأعلى في اليقين وحسن الثقة بالله تعالى , فها هو الخليل إبراهيم عليه وسلم حينما حاجه قومه قال لهم في يقين وثبات : (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) سورة الأنعام
وها هو كليم الله موسى عليه السلام يقول لأصحابه حينما أدركهم فرعون فوجدوا البحر من أمامهم والعدو من ورائهم : " فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) سورة الشعراء .
وهذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهما في الغار وقد أحدقت بهما الأخطار ـ ما ظنك باثنين الله ثالثهما , لا تحزن إن الله معنا ـ قال سبحانه : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(40) سورة التوبة .
ولليقين مراتب منها : العلم , وحسن التوكل , والرضا والتسليم , وعدم تعلق القلب بغير الله , وأن يكون أوثق بما في يد الله تعالى عما هو في يده , كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله :يحب التصدق والإيثار على نفسه، وكان يتصدق بقوته ويبيت طاوياً، فأصبح يوماً وليس في بيته غير درهم واحد، فقالت له زوجته: خذ هذا الدرهم واشتر به دقيقاً نعجن بعضه ونطبخ بعضه للأولاد، فإنهم لا يصبرون على ألم الجوع، فأخذ الدرهم والمزود وخرج إلى السوق، وكان الجو شديد البرودة، فصادفه سائل فتحوله عنه، فلحقه وألح عليه وأقسم عليه، فدفع له الدرهم وبقي في هم وكرب، وفكر كيف يعود إلى الأولاد والزوجة بغير شيء، فمر بسوق البلاط وهم ينشرونه ففتح المزود وملأه من النشارة وربطه وأتى به إلى البيت فوضعه فيه على غفله من زوجته ثم خرج إلى المسجد فعمدت زوجته إلى المزود ففتحته فإذا فيه دقيق أبيض فعجنت منه وطبخت للأولاد فأكلوا وشبعوا ولعبوا فلما ارتفع النهار جاء أبو مسلم وهو على خوف من امرأته فلما جلس أتته بالمائدة والطعام فأكل، فلما فرغ قال: من أين لكم هذا؟ قالت: من المزود الذي جئت به أمس، فتعجب من ذلك وشكر الله على لطفه وكرمه.
واليقين ثلاث درجات:
الأولى: علم اليقين. قال تعالى:(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)(5) سورة التكاثر ,فعلم اليقين هو العلم الجازم المطابق للواقع الذى لا شك فيه .
والثانية: عين اليقين. قال تعالى:(ثُمَّ لترونها عَيْنَ الْيَقِينِ) (7 ) سورة التكاثر وهو ما كان عن مشاهدة وانكشاف.
والثالثة حق اليقين. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.الواقعة: 74.وهو ما كان عن ملابسة ومخالطة.
قال الشعراوي : إن اليقين هو تصديق الأمر تصديقاً مؤكداً، بحيث لا يطفو إلى الذهن لِيُناقش من جديد، بعد أن تكون قد علمته من مصادر تثق بصدق ما تَبلغك به.
أما عَيْن اليقين؛ فهي التي ترى الحدث فتتيقّنه، أو هو أمر حقيقيّ يدخل إلى قلبك فَتُصدقه، وهكذا يكون لليقين مراحل: أمر تُصدِّقه تَصديقاً جازماً فلا يطفو إلى الذهن لِيُناقَش من جديد، وله مصادر عِلْم مِمَّنْ تثق بصدقه، أو: إجماع من أناس لا يجتمعون على الكذب أبداً؛ وهذا هو علم اليقين ؛ فإنْ رأيتَ الأمر بعينيك فهذا هو حق اليقين..
وعلي كل فالتقي المؤمن من يستشعر وجود الله تعالى معه في حياته كافة ، في فرحه وحزنه ، في شدته و رخائه ، لا يقصي الله من حياته ، يوقن حق اليقين بأن الله مدبر الأمور ، مسيّرها ، كل شيء في الكون يمشي بحكمة الله ، بأوامره ، بدقة ولهدف معين قد يعرفه الإنسان ، وقد يجهله و يبقى السبب في علم الغيب عند الله ، و لو كان سبب الحدوث مجهول في علم الغيب يجهله المرء ، يبقى على يقين بأن الله لا يأتي إلا بالخير لعباده المسلمين المؤمنين ، و الإنسان يجب أن يستشعر قرب الله ، ويكن على مرتبة عالية من اليقين به سبحانه و تعالى الحي القيوم الذي يحي ويميت ، يدبر الكون كله بكلمة كن فيكون . فلو فقد الله الإنسان يقينه بالله ، واستسلم لوساوس الشيطان ، فقد لذة العيش ، والشعور بالرضا والراحة ، فيبقى على قلقٍ دائمٍ من المستقبل ، يخاف من الغيب ، لا يثق بتدابير الله لأموره وحياته ، يبقى على شك في قدرة الله له بإخراجه من ضيقه ، متردد بالثقة بالله ، يقينه ضعيف بجبروت الله ، ظاناً بأن العبد سيفيده وسيرزقه وسيساعده في ضيقه ، ناسياً بأن العباد هؤلاء خلقهم الله عز و جل ، ومصيره و مصيرهم معلقٌ بيدي الله تعالى ، فلا يملك لنفسه النفع والضر إلا إن أراد الله و شاء بذلك ، فيبقى الشخص ضعيف اليقين في خوفٍ وقلقٍ دائمين ينتظر أفعال الله له بخوفٍ و ترقب بأن ينجيه أم لا ، فيتعب في دنياه و يخسر الله تعالى بخوفه من أفعال القوي الجبار سبحانه و تعالى . وشعور اليقين شعورُ الراحة المطلقة للمرء ، فهو يطمئن لسير حياته ، لا يقلق من غده ولا من مستقبله ولا من الغيب ، فيشعر بأن الله بجانبه يرعاه برعايته عز وجل ، يدبر له الأمر ييسر له الرزق ، يدفع عنه المكروه يرزقه الخير ، فإن أصابه فرحٌ حمد الله ، وإن أصابه مكروهٌ حمد الله أكثر ؛ لأن البلاء من الله اختبارٌ للصبر ، و دفعٌ للذنوب ، ورفعٌ للدرجات وصبر على ما أصابه ، فيعش حياةً هانئة بوجود الله في حياته . قال الله عز و جل في كتابه الكريم : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .جعلنا الله جميعا من أهل اليقين ووفقنا إلي ما يحب ويرضي ،كما نساله ان يرزقنا هداية لا ضلال بعدها وإيمانا ليس بعده كفر ,ويقينا ليس بعده شك أمين يارب العالمين.
* إمام وخطيب جامع الأمين