إبراهيم السيد العربي:هذا سؤال ما أحوجنا إليه، لأن العبد المسلم يحتاج إلى وقفة مع نفسه ويتفكر في النعم الكثيرة التي أعطاها الله تعالى له. وعندما يتعلق العبد بربه سبحانه وتعالى ويرى مكانته في قلبه عليه في أول الأمر أن يلزم الطاعة في كل أمور حياته أو بمعنى آخر: أن يجعل كل حياته ملكُ لله تعالى ولا يقتصر هذا على العبد نفسه, بل عليه أن يبدأ أيضاً بمن يعول بداية من الزوجة ثم الأولاد ثم كل من يحب من إخوانه وأصدقائه، وكما نعلم أن الله تعالى هو أقرب إلينا منا, وهو أوضح من كل موجود نلمسه, ونشمه ونسمعه ونراه فما بال العبد يعيش بعيداً عن هذه الحقيقة تائهاً ضالاً؟ إذاً فالتيه الذي نعيش في ظلماته يعتبر تيه صناعي موهوم, إذ ليس هناك أي وجود حقيقي لأي شيء مهما عظُم حتى يشغلنا عن الله عز وجل, وهناك بعض العباد يغترون بأعمالهم مع قلّتها ومع هذا ينسون أنفسهم ,ولهذا الغرور وجهان: الأول: رضاك عن نفسك والافتتان بما تأتيه من عبادة ونُسك، والوجه الثاني: الاستعلاء على الآخرين بفضله بل وتعييرهم بما معهم من قصور ومساوئ, وهذا نوع من الغرور يُضيّعُ صاحبه والعياذ بالله تعالى، وعندما تسلم النفس من ذاتيتها وأنانيتها فلن تُذل بطاعة أبداً بل ستظل راكعة لله تعالى, الذي وفقها وهداها وزكّاها, والنفس المؤمنة تفرح بتوفيق الله تعالى لها , بأن يسّر لها أمر عمل الصالحات. واعلم يا صاحب النفس التقية, أنك إن عيّرت الآخرين بضعفهم, فهذا يكشف عن أن النفس قد ضلت طريقها إلى الله تعالى بل وقبل ذلك يتبين لنا عن أنها لا تستحق شرف السير على طريق الحق المستقيم, ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى كلاماً طيباً في هذا المقام, ما أجمله يقول:(تعييرك أخاك بذنبه أكبر إثماً من ذنبه ففي تعييرك هذا, تبدو صولة الطاعة وتزكية النفس والمناداة عليها بالبراءة من الذنب ولعل انكسار الذي عيرته بذنبه, ووقوفه بين يدي ربه ناكس الرأس خاشع الطرف منكسر القلب أنفع له من صولة طاعتك ومنّك بها على الله. ألا ما أقرب هذا العاصي من رحمة الله تعالى, فذنبُ تُذَلُ به لديه، أحب من طاعة تُدِلُ بها عليه, ولأن تبيت نائماً وتصبح نادماً خيرُ من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً فإن المعجب لا يصعد له عمل) انتهى كلام ابن القيم.أخي الكريم: إن من أفضل ما يتقرب به العبد لربه عز وجل أن يعمل العمل الصالح ويجعله ابتغاء وجه الله تعالى ولا يتعاظم على أحد من المسلمين مقتدياً في ذلك بخير خلق الله أجمعين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ومع العمل الصالح لابد من البُعد عن المعصية لأن المعصية تورث الذل والانكسار. فغرور العبادة آفة يتوقّاها أهل الله, ويحذرون منها ثم إن الحسنة من آثارها العظيم أنها تشجع على عمل الحسنة الأخرى, قال عروة بن الزبير ـ رضي الله عنهما:(إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات , وإذا رأيت الرجل يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات)، وما أجمل أن يتقرب العبد من ربه وهو في عافيته, لأن العافية من أعظم النعم التي يعطيها الله لعبده, فمن وفقه الله لكي يعمل العمل الصالح وهو في العافية فليحمد الله تعالى على توفيقه له في هذا الوقت. وكان من دعاء الصالحين (اللهم استرنا بالعافية) فعافية الله تعالى هي التي تصنع الفارق الشاهق بين الطائع والعاصي، وبين المعافى بالهدى, المستور بالعافية, وبين المبتلي بالذنب المحروم من العافية، ورحم الله سلفنا الصالح كانوا لا يأمنون مكر النفس واغترارها بالطاعة, ومن هؤلاء الربيع بن خيثم, وهو من التابعين رحمهم الله تعالى جميعاً ورضي عنهم وكان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ إذا رآه قال له:(بشّر المخبتين) ثم يقول له:(لو رآك رسول الله لأحبك) ومع هذه المنزلة الكبيرة في الورع والتقوى, كان إذا طلب منه أحد أصحابه أن يعظهم كان جوابه لهم (ما أنا عن نفسي براضٍ حتى أتحول عن ذمها إلى ذم الناس وما أريد أن أكون من قوم خافوا الله في ذنوب الناس وأمنوا عذابه في ذنوبهم) ألا ما أعمقه من تفكير: ويا ليتنا نقف مع هذه الكلمات وقفة تأمل واعتبار, فهذا التابعي يرى من نفسه أنه مقصّر ويجب عليه قبل أن ينصح الناس ويخوفهم من ذنوبهم , عليه أن يخاف الله أولاً ثم ينصح الناس بعد ذلك.أخي الكريم: إن من أهم ما نتقرب به إلى الله تعالى: (1) أن نتق الله تعالى في السر والعلن,(2) وأن لا نغترّ بأعمالنا الصالحة بل علينا أن نشكر الله تعالى على توفيقه لنا لهذا العمل، (3) وبدل أن نُعاير الآخرين ونتطاول عليهم , بدل ذلك ليتنا ننشغل بعيوبنا عن عيوب الناس فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الآخرين، (4) أن ندعو الله تعالى بعد كل عمل صالح أن يتقبله منا برحمته فهذا من أهم الأمور التي بها يتقبل الله تعالى العمل, قال إبراهيم النخعي:(ما أحسب أحداً تفرغ لعيوب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه). فندعو الله العلي القدير أن يوفقنا لطاعته, والقرب منه إنه على كل شيء قدير, اللهم آمين والحمد لله رب العالمين. * إمام وخطيب جامع الشريشة/ سوق مطرح