عزيزي القارئ: لا شك أن القرآن هو مصدر التشريع الأول في الإسلام, ولقد احتوى على تشريعات حكيمة وأحكام قويمة تقي الإنسان من التخبط في حياته, رحمة من الله وفضلاً منه على هذا الكائن الضعيف, وتحقيقاً لحكمته سبحانه وإسعاداً للإنسان في الدارين, ولو ترك الأمر للإنسان لتاه في الظلمات, وصدق الله سبحانه إذ يقول:)إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً( )الإسراء ـ 9).
ولمّا كان القرآن الكريم صادراً من عند الله اللطيف الخبير, وهو أعلم بالإنسان لأنه خالقه, قال الله تعالى:(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك ـ 14), كانت تلك التشريعات لا يستطيعها البشر ايجاداً, لأن الإنسان الذي يعيش في زمن يجهل باقي الأزمان, والذي يعيش في مكان يجهل باقي الأمكنة, والذي يعرف قضية يجهل قضايا كثيرة, والذي يعرف جانباً في قضية يجهل جوانب كثيرة منها, كما إنه لا يعرف شيئاً عن المستقبل شيئاً, وصدق الله تعالى إذ يقول:(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (الاسراء ـ 85).
يشير الإعجاز التشريعي للقرآن إلى إثبات القرآن عدم قدرة الناس جميعاً في كل زمان ومكان عن الإتيان بمثل تشريعاته سواء في العبادات أو المعاملات, مع تحقيق ما فيها من عدل وتوازن وشمول وتكامل وتيسير وحِكَم وصلاحية لكل زمان ومكان, والتي تشكل خصائص التشريع, ويُستنتج من هذا الاعجاز, صدق الرسول عليه السلام فيما جاء به من عند ربه, لأنه لما ثبت عجز الخلق عنه, ثبت صدوره من قدرة عليا فوق قدراتهم وهو قدرة الله سبحانه وتعالى المطلقة.
فالقرآن قد احتوى على أنظمة سياسية واقتصاديةً واجتماعيةً وأخلاقية وقضائية محكمة, بشكل لا يمكن للخلل أن يتطرق إليها, كحال التشريعات الأرضية, وذلك لأنه مصدرها من عند الله جل جلاله الرب الرحيم العليم الخبير, وإنما قد يخطأ البعض في عملية تنفيذه.
ومن مزايا التشريع القرآني كذلك أنه مرتبط بالعقيدة فهو جزء من الإيمان وأثبت الثواب لمن أطاع وتوعّد من زاغ, وكثيراً ما ترد عبارة (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) في القرآن الكريم, فالإيمان إذاً اعتقادٌ وقول وعمل, وأن فقد العملَ فقد حيويته في الحياة, ومن التيسير قلة التكاليف فالزكاة مرة في العام, والحج مرة في العمر, ويمثل التدرج في التشريع خصيصة مهمة جداً, ولولا ها لما جاء العمل بكثير من الأحكام بواسطة المكلفين, ومن الأمثلة التدرج في الصوم وفي الصلاة وفي تحريم الخمر والتدرج من العقيدة إلى الشريعة, ومن المزايا: أن جميع التشريعات نيطت بمصالح الناس وجاءت لحفظ الكليات الخمس: الدين والعقل والنفس والنسل والمال, تلك المصالح أو المقاصد تنطوي تحت ثلاث هي: مصالح ضرورية أسياسية, لا يقوم صلاح الدنيا والآخرة إلا بها كتحريم الزنا حفظاً للعرض والنسل, ومصالح حاجية لرفع المشقة كإفطار الصائم دفعاً للمشقة, ومصالح تحسينية أو كمالية كالقيام بالآداب النافلة والتجنب عن العادات المستهجنة, مثالها غسل الثوب حافظاً على الصحة وطلباً للمنظر الحسن.
أن التشريع الاسلامي لم يبق مثالياً دون حلوله في واقع الحياة, ولما جسده المسلمون في أقوالهم وأفعالهم, سادوا الدنيا بأخلاقهم وحسن معاملاتهم, وشيدوا أوسط وأفضل حضارة عرفها الإنسان سابقاً ولاحقاً, ضربت أحسن الأمثال بحسن الخلق والتعامل مع الآخرين, فضلاً عن تكاتف بعضهم البعض وإصلاحهم ذات بينهم, حتى صاروا لحمة واحدة محترمة لدى جميع الإنسانية, وكان من ضمن ما قاموا به محافظتهم على حقوق الإنسان المعيشية والاجتماعية والعرقية والفكرية والمالية والسياسية بشكل كامل, لم يتم الاحتفال به في جميع الحضارات الأخرى السابقة واللاحقة, وما زلنا نعيش ثمار تلك الحضارة الإسلامية إلى يومنا هذا.
كل ذلك يخبرنا عن عظمة هذا التشريع الذي هو ذا كمال دون نقصان, لا يذر شيء وإلا بينه دون إفراط ولا تفريط فيه, وهو مرن, فالأمور الثابتة قد بينتها نصوص الشريعة, والأمور المرنة المتغيرة أصولها موجود في النصوص لكن أوكل الله جل جلاله الاجتهاد للعلماء الفطاحل لمعرفة أحكامها وتسمى الفروع, وهذا ما عجز عنه البشر وما زال يعجزهم إعجازاً, وسوف يستبين لنا ذلك, مع ضرب الأمثلة عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى .. والله ولي التوفيق.

علي بن سالم الرواحي