عمّان ـ العمانية:
على ربوة مطلّة على شارع تاريخي في مدينة إربد شمال الأردن، يقف متحف "بيت عرار" الذي يوثق لمسيرة وحياة الشاعر مصطفى وهبي التل والمعروف بـ"شاعر الأردن"، محاطاً بالأشجار الباسقة، ومحتضناً في ساحته شجرة توتٍ عتيقة تؤشر على الهيبة والعراقة؛ هيبة الشاعر وعراقة المكان الذي سكنه في يوم ما.
هذا البيت الذي تُجاور فضاءَه مئذنةُ المسجد وصليبُ الكنيسة، يشكل مع البيوت المجاورة وتلك الممتدة على جانبَي الشارع القديم، ذاكرة تاريخية وحضارية للمدينة، فمعظم هذه البيوت تحولت إلى متاحف أيضا، ومنها بيت السرايا؛ القلعة التي بناها العثمانيون في منتصف القرن التاسع عشر واستُخدمت فيما بعد كسجن قبل أن تقرر السلطات تحويلها إلى متحف، وكذلك بيت النابلسي؛ الذي يعود لعائلة منحدرة من أصول سورية ويستوحي الطراز الشاميّ في البناء.
وهناك أيضا بيت الشرايري التاريخي، ومضافة آل التل.
قام والد "عرار"، صالح مصطفى التل، بتشييد البيت في عام 1888، على الطراز الدمشقي، وكان وقتها يتكون من غرفتين فقط، وساحة واسعة مرصوفة بالحجر الأسود البركاني وحجر "القرطيان" الموشّح بالوردي، ثم أضيف للبيت في سنة 1904 بعض الملاحق بالتوازي مع زيادة أفراد العائلة، وصار يتكون من أربع غرف ومجلس واسع ينفتح على الساحة الأمامية.
وظل البيت يكبر كلما كبرت العائلة، وكأنه يواكب عبر تشكّله مع الزمن حياةَ ساكنيه، هؤلاء الذين غادروه لكنه ما زال وفيا لذكراهم اليوم.
يتميز البيت بنكهته الدمشقية التقليدية، حيث أبواب الخشب الثقيلة والمثبت عليها مسامير ذات أشكال هندسية بسيطة، وأنيقة، والممرات التي تفصل بين الغرف وتفضي إلى الساحة الخارجية التي تمنح المكان ألفةً بوجود النافورة ذات الشكل الهندسي المزيّن بالحجارة الوردية، واللتين تجاورتا في سكينة نباتاتُ الياسمين والريحان وشجيرات الليمون.
ويؤشر البيت على مأثرة من مآثر العمارة العربية وجماليات البيوت القديمة المغلقة من الخارج والمفتوحة إلى الداخل، كما تستلهم الأبواب والشبابيك شكل الأقواس، وهي مصممة لتكون بحجم كبير كي تسمح بدخول الهواء وأشعة الشمس إلى الغرف على مدار النهار.
وسكنت عائلة الشاعر عرار هذا البيت فترة من الزمن، ثم أقام فيه المستشار البريطاني "سمر سميث" الذي كان يعمل في حكومة فلسطين زمن الانتداب، وفي عام 1918 تحول البيت إلى مدرسة، ثم عادت عائلة التل لتقيم فيه مجددا منذ عام 1922 قبل أن يحوله الطبيب الإنجليزي "سنيان" إلى مستشفى على غرار الإرساليات الطبية التبشيرية التي كانت سائدة في ذلك الزمن.
بعد ذلك، استخدم الأديب والطبيب صبحي أبو غنيمة هذا البيت كعيادةٍ وسكن، قبل أن يعود عرار للسكن في بيت عائلته والإقامة فيه، حتى وفاته سنة 1949.
ثم طالت يد الإهمال والنسيان هذا البيت فترة طويلة من الزمن، قبل أن تعاد له الحياة عبر ترميمه وتجديده وتخصيصة متحفا للشاعر، بالتنسيق بين عائلة الشاعر ووزارة الثقافة.
واليوم، ما إن يعبر الزائر المدخل الرئيسي للبيت، حتى ترحب به شجرة التوت المعمّرة بجذعها الملتفّ كأنه منحوتة فنية صنعتها يد الزمن، ثم ينفتح الباب على ساحة البيت المهيبة والتي تمنح إحساسا عميقا بعبق التاريخ وأصالة المكان وبهاء ذاكرته المستمدة من حضور الشاعر عرار في وجدان الناس.
في واحدة من الغرف الخمس التي سكنتها العائلة، كانت صرخة عرار الأولى في الحياة (1897م)، وظل البيت الذي شهد أولى شقاوات الطفولة ومحاولات الشعر حاضرا في وجدان عرار رغم تنقله وترحاله بين الأردن، لهذا أوصى أن يُدفن فيه، وهو القائل:
"يا أردنياتُ إن أُودِيتُ مغتربا .. فانسجْنَها بأبي أنتنّ أكفاني
وقلنَ للصّحب: واروا بعضَ أعْظُمِه .. في تلّ إربدَ أو في سفحِ شيحان".
فقد كان للبيت الواقع على تل إربد، ولمنطقة شيحان جنوب الأردن، مكانة خاصة في نفس الشاعر القائل:
"ولسوف تبقى للصبابة في ثرى رمسي بقية وهواي سوف يظل يهزأ بالقبور وبالمنية".وكان لعرار ما أراد، ولو بعد حين، إذ نُقل رفاته من المكان الذي دُفن فيه عند وفاته، إلى البيت الذي عاش فيه قسطا من حياته.
وها هو ضريحه يتوسط الساحة بين غرفتين في صدارة البيت، كما تتوزع صوره الشخصية والعائلية على الجدران، بعضها يَظهر فيها مع ابنيه "وصفي" الذي شغل منصب رئيس الوزراء في الأردن لاحقا، و"سعيد" الذي شغل منصب نائب رئيس الوزراء أيضا، وهناك صور توثق لأعمال الشاعر والمناصب التي تولّاها.
وفي إحدى الغرف، تتسلل الشمس من النافذة على مهل، تلقي بنورها على مكتبة عرار، وكرسيه، وسرير نومه، وكتبه ومؤلفاته ومقالاته في الصحافة العربية، والمقالات التي نُشرت عنه.
وفي غرفة أخرى يد الزائر توثيقا لمراحل نضال عرار ومواقفه القومية ضد الاستعمار الإنجليزي للأردن وفلسطين، وكان الشاعر قد عاصر فترة الحكم العثماني، ثم الاستعمار الفرنسي لسوريا، وشهد أحداثا كبرى منها توقيع معاهدة سايكس بيكو، وصدور وعد بلفور..
وكتب في كل هذه الأحداث شعرا ما تزال تتناقله الألسن.
ولسبب ما، يشعر الزائر وهو يتجوّل في البيت، أن عليه أن يتهادى في مشيته، ويخفض من صوته، كأنه في حضرة عرار الذي يستلقي على سريره أو يكتب قصيدة جديدة فوق مكتبه!
عمل عرار معلما، ومحاميا، وحاكما إداريا، كما عمل في سلك القضاء، وعُزل واقتيد إلى السجن ونُفي أكثر من مرة بسبب مواقفه المتمردة.
وتكشف قصائد عرار عن انشغاله بالقضايا القومية، وفي طليعتها قضية فلسطين، وعن نصرته للضعفاء والفقراء والبسطاء الذين كان يشعر أنه ينتمي إليهم وظل قريبا منهم حتى وفاته في 24 مايو 1949.
وكان عرار على صلة وثيقة ببلاط الملك عبدالله الأول بن الحسين، وبنخبة من الشعراء والأدباء العرب الذين كانوا يجتمعون في مجالس الملك الأدبية، وتدور بينهم مساجلات ومعارضات شعرية.
وها هو "بيت عرار" يمثّل اليوم واحة ثقافية في قلب مدينة إربد، ومقصدا لكل من أراد أن يعرف أكثر عن هذا الشاعر الكبير، كما تقام في ساحاته الأمسيات الثقافية، والأنشطة الأدبية والفنية، ويفتح للزوار والباحثين من طلبة المدارس والجامعات.