إعداد ـ محمد عبد الظاهر عبيدو:
معجزة الإسراء والمعراج كانت رحلة تكريم وتعظيم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد أن أصابه ما أصابه من كفار قريش، كرمه بها الله سبحانه حيث صبر وصابر وتحمل، وكانت بالروح والجسد معاً، وكانت في اليقظة ولم تكن في المنام، فما هي رحلة الإسراء والمعراج؟ وما الذي حدث بعدها؟ وما هي أهم الدروس والعبر التي يستنتجها المؤمن من تلك الرحلة لتفيده في حياته؟.
ما هي الدلالات التي نستنتجها من رحلة الإسراء والمعراج؟ ما هي الدروس التي تنعكس على إيمان المؤمن وتزيده ثقةً بالله تعالى؟ .. ما هي أهم العبر التي نأخذها من رحلة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذه؟.
كانت معجزة الإسراء والمعراج من أجل المعجزات وأعظم الآيات التي تفضل بها المولى سبحانه على نبيه ومصطفاه محمد (صلى الله عليه وسلم), ولأهميته هذه المعجزة فقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم في موضوعين، الأول: في سورة سميت باسم هذه المعجزة وهي سورة الإسراء والتي بدأها سبحانه:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
والثاني في سورة النجم قال تعالى:(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم 1 ـ 18).
ومعجزة الإسراء والمعراج فيها مشاهد عظيمات وآيات باهرات يتعلم منها المسلم الدروس والعبر والتي منها:
الدرس الأول: كل محنةٍ وراءها منحة: فكل محنة وشدة وراءها منحة وعطاء وتكريم من الله، فبعد هذه المحن والشدائد والصعوبات والإيذاء الذي تعرض له النبي (صلى الله عليه وسلم) في الفترة الزمنية التي سبقت الإسراء والمعراج جاءت رحلة التكريم ورحلة الإعجاز الإلهي العظيم لتثبيت قلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكي يزداد إيماناً ويقيناً بما يدعو إليه من رسالة ربنا، إذاً بعد كل محنة منحة وعطاء من الله، وقد تعرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لمحن عظيمة وشديدة، فهذه قريش قد سدت كل الطرق في وجه الدعوة إلى الله في مكة المكرمة، وفي ثقيف، وفي سائر القبائل العربية، وأحكمت الحصار ضد الدعوة الإسلامية، ووقفت في وجه رجالات الدعوة من كل جانب، ولم تفسح لهم المجال في نقل هذه الرسالة وتبليغ هذه الأمانة بأي سبيل من السبل التي كانوا يتخذونها، وأصبح النبي (صلى الله عليه وسلم) في خطر عظيم بعد وفاة عمه أبي طالب الذي كان أكبر حماته والمدافعين عنه، وأصابه حزن شديد بعد فقد زوجته ومؤنس حياته السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ ومع ذلك فقد ظل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ماضياً في طريقه صابراً محتسباً في تبليغ أمر ربه، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يتأثر بكيد مستهزئ أو ساخر أو من يسيء له بأي كلمة من الكلمات التي كان يتعرض لها كاتهامه بأنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو غير ذلك.
إذاً آن الأوان للمنحة الربانية والعطاء الإلهي بلا حدود، فجاءت رحلة الإسراء والمعراج على موعد من رب العالمين فاختاره الله دون جميع الخلائق ليكرمه على صبره وجهاده ولكي يخاطبه دون واسطة ومن غير حجاب، ولكي يطلعه على عوالم الغيب دون الخلق أجمعين، وأكرمه بعد ذلك بأن جمعه بإخوانه من الأنبياء والرسل في السماوات سماء تلو سماء تلو سماء، فكان إشعاراً بأنه إمامهم وقدوتهم وخاتمهم، وأنه آخر الأنبياء على الإطلاق، وهذه نعمة عظيمة ومنحة كريمة ما وراءها منحة، وهذا درس عظيم لكل مسلم يتعرض لشدة أو تصيبه منحة أو كرب فإذا صبر وتحمل الشدائد فلا شك أن الله سيكرمه بالعطاءات الإلهية والمنح الربانية، وإن كل محنة وراءها منحة فلنصبر ولنحتسب ولنتق الله إذا تعرضنا لمحنة أو شدة في حياتنا، فلعل الله يكرمنا بعدها بالمنح والعطاءات الكريمة.
الدرس الثاني: الأمر الآخر يتبين لنا من خلال الزمن الذي كان يعيشه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهو أنه كان يتهيأ للهجرة ولإقامة عاصمة للدولة الإسلامية هناك في المدينة، فبعد أن ضاقت عليه مكة بما رحبت نتيجة عدوان أهلها وطغيانهم، ثم ما تعرض له في ثقيف والطائف، آن الأوان لكي يبحث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن المكان الأكثر أماناً والأكثر استقراراً للدعوة الإسلامية، فلا بد من الانتقال إذاً إلى المدينة المنورة.
وإقامة الدولة تحتاج إلى قواعد متينة وأساسات عظيمة، وإلى بنيان راسخ يخلو من المنافقين ويخلو من المترددين ومن تزعزع إيمانه، فهذه المرحلة التي يمر بها النبي (صلى الله عليه وسلم) تحتاج إلى أن تكون مرحلة قوية. لذلك اختبر الله سبحانه وتعالى إيمان المؤمنين وبرز بعد هذه الحادثة المنافقون من المؤمنين، فالذين صدقوا أمثال سيدنا أبي بكر الصديق كانوا أول من دعم وساند وثبت مع سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما انتقل إلى المدينة، فكانوا أجنحة له وكانوا حواريين له، وكانوا داعمين ومؤيدين سفراً وحضراً، ولم يرَ منهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا كل صدق وصبر وثبات ومصابرة.قال تعالى:(الم احسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون)(العنكبوت) إذاً فُتن من فتن، ونجح من نجح، وفاز من فاز، وخسر من خسر في هذه الامتحانات الربانية.
ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذه المرحلة المؤمنون الصادقون، وابتعد عنه المتزعزعون في عقيدتهم الذي كانوا مترددين لا إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، حالة النفاق هذه تخلص منها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذه المرحلة الضرورية فبرز المنافقون وظهروا على حقيقتهم، إذا كانت فرصة قوية للمؤمنين، كي يترسخ الإيمان في قلوبهم أمام هذه المعجزة العظيمة، كما أنه كان فرصة ليكشف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من كان منهم منافقاً ومن كان إيمانه ضعيفاً.
الدرس الثالث: تبدو شجاعة النبي (صلى الله عليه وسلم) واضحة في مواجهة المشركين بأمر تنكره عقولهم، ولا تدركه تصوراتهم، ولم يمنع رسول الله من الجهر بما يعتقد به الخوف من مواجهتهم أو نكرانهم أو استهزائهم به فضرب بذلك أروع الأمثلة لأمته في الجهر بالحق أمام أهل الباطل وإن تجمعوا ضد الحق وأهله وجندوا من أجل ذلك كل شياطينهم وكل وسائلهم.
وكان من حكمة النبي (صلى الله عليه وسلم) في إقامة حجته على المشركين أن حدثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس وأبدى لهم الدلالات والعلامات التي حجة قطعية، فأعطاهم أدلة بالأرقام، ولغة الأرقام لا تزال إلى اليوم اللغة الأكثر دخولاً إلى العقل، والدعوة الإسلامية منذ عصورها الأولى إلى اليوم تعتمد لغة الحجة والبرهان والدليل، لغة التوثيق ولغة الإحصاءات، الإحصاءات بالأرقام كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حينما أخبرهم فوصف لهم بيت المقدس باباً في الموضع الفلاني وباباً في الموضع الفلاني، وعدد سواريه، وعدد فوانيسه، وكل ما يتعلق به أعطاهم إياه بالأرقام فلم يعد لديهم أي حجة للإنكار، بعد ذلك أخبرهم كدلائل بلغة التوثيق عن البعير التي كانت بالروحاء وعن البعير الثانية التي نفرت منها الإبل، ثم عن البعير التي كانت بالأبواء ووصف لهم الجمل الذي يتقدمها بأنه أورق.
إذاً هذه اللغة لغة تحدٍّ من النبي (صلى الله عليه وسلم) لقومه تعطينا مؤشراً ودليلاً على أن صاحب الحق ينبغي أن يقول ويذكر حقه بقوة دونما خوف، فالنبي رغم توقعه بأنهم سيستهزؤون به ويتنكرون لما سيحدثهم به، مع ذلك حدثهم برحلته ليكشف إيمان المؤمن، وصدق الصادق، وكذب الكاذب.
ونحن نستفيد من ذلك درساً عظيماً، وهو أننا حينما نكون أصحاب حق في قضية من القضايا، فعلينا أن نتحدث بحقنا بقوة كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(إن لصاحب الحق مقالا) أي فلتسمع مقالته وليترك صاحب الحق أن يبين حقه ما له وما عليه، وأن يبدي حجته وأن يأتي بالأدلة التي تؤكد المقولة التي يذهب إليها.
فالنبي (صلى الله عليه وسلم) جاءهم بأدلة ظاهرة كانت مفحمة لهم لا يستطيعون معها أن يتهموه بالكذب، ولا أن يزوروا الحقائق ولا التاريخ، بل إنه كان يتحداهم ويقول لهم: (فاسألوا عن ذلك القوم) لثقته بما يقول.
فما كان منهم بعد ذلك حين لم يجدوا حجة يواجهون بها حجته إلا أن قالوا: إنه ساحر، وبدأوا يصفونه بصفات لا تليق به ـ عليه الصلاة والسلام.
الدرس الرابع: لقد ظهر إيمان سيدنا أبي بكر الصديق واضحاً وجلياً أمام هذا الحادث الجلل العظيم، عندما أخبره المشركون فقال لهم بلسان الواثق المؤمن :(لئن قال ذلك فقد صدق).
هذا الشيء يدل دلالة واضحة على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد ايده بأمثال الصديق برجال كثر صدقوا به وآمنوا به ولم يكذبوه، فظهر بقوة إيمانهم كذب الكاذبين ونفاق المنافقين.
وهنا نستفيد درساً عظيماً هو أن المحن والشدائد تكشف الصديق الصادق الصدوق كما قالوا في الحكمة:(إن الصديق من صدقك وليس من صدقك) فهناك من الناس من يصدق على كذب أو غير الواقع، ليكسب بذلك منزلة أو شهرة أو مكانة أو مالاً، لكن الصديق الحقيقي هو من يصدقك في كل أمورك، فإذا رأى منك خطأ نقل لك هذا الخطأ وقال لك: تنبه يا أخي فلان فقد وقع منك خلل أو زلل أو علة.
إذاً الصديق الحقيقي هو الذي يقف مع أخيه عند الأزمات، هو الذي يكون له عوناً، هو الذي لا يتربص به الدوائر لينتظر زلة منه أو نقيصة أو خطأ معيناً ليعاتبه أو لينظر إليه نظرة ازدراء أو انتقاص، فالأخ الحقيقي والصديق الحقيقي إذا رأى أخاه في أزمة أو في شدة أو في ضيق فإنه يسارع إلى تصديق أخيه ومساندته وإلى تأييده فيما هو فيه من أزمة ويسعى بكل ما يملك من قوة في أن يساهم في رفع هذه الشدة عنه ورفع ما أصابه من هم أو حزن أو كرب، إن لم يكن مادياً فمعنوياً في أضعف الأحوال، وما أحسن الوقوف المعنوي في هذا الزمان حيث أصبح الإنسان يحتاج إلى كلمة ثناء أو كلمة شكر: جزاك الله خيراً، بارك الله بك، أيدك الله، وفقك الله، نصرك الله، إذا فعل أمراً طيباً أو قدم معروفاً صالحاً.
يعني مشكلة كثير من الناس اليوم أنهم ينظرون بعين النقد والانتقاد إلى كل الأعمال، هناك مقولة قديمة تقول: إذا لم تر أن تعمل فدعنا نعمل.
يعني هناك من الناس من لا يعمل، ولا يريد لأحد أن يعمل، فإذا رأى أحداً يعمل سلط مجهر النقد والانتقاد والانتقاص إليه وبدأ يعد زلاته وأخطاءه وما يقع فيه من نقص أو غير ذلك.
فالمؤمن الحقيقي الصادق لأخيه هو الذي يدعم أخاه ويسانده، والنبي (صلى الله عليه وسلم) وصف المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، يقول (صلى الله عليه وسلم):(لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وقال تعالي :(الأخلاءيومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)(الزخرف) هذه الخلة وهذه الصحبة وهذه الصداقة ينبغي أن تقوم على خير وأن تستمر بخير وأن تدعو إلى خير، وأما إذا كانت صحبة مصالح وصحبة أهواء فلا شك أن أول منفعة تصطدم فيها المصالح بين الصديقين ستنفصل عرى هذه الصحبة وتؤول إلى خصام ونزاع ولجاج، لكن صحبة سيدنا أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أثبتت أنها الصحبة الصادقة والحقيقية وأنها النموذج الذي ينبغي أن يكون عليه الناس في صحبتهم وفي أخوتهم وفي علاقاتهم فيما بينهم.
هذا هو الأخ الصالح والصاحب الصدوق .. أسأل الله سبحانه أن يجعلنا إخوة متحابين فيه وأن يجعل أخوتنا صادقة فيما يرضي الله سبحانه.
الدرس الخامس: مكانة المسجد الأقصى في الإسلام: للمسجد الأقصى قدسية كبيرة عند المسلمين ارتبطت بعقيدتهم منذ بداية الدعوة. فهو يعتبر قبلة الانبياء جميعاً قبل النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو القبلة الأولى التي صلى إليها النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يتم تغير القبلة إلى مكة. وقد توثقت علاقة الإسلام بالمسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج حيث أسرى بالنبي (صلى الله عليه وسلم) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وفيه صلى النبي إماماً بالأنبياء ومنه عرج النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء. وهناك في السماء العليا.
ويعتبر المسجد الأقصى هو المسجد الثالث الذي تشد إليه الرحال، فقد ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) إن المساجد الثلاثة الوحيدة التي تشد إليها الرحال هي المسجد الحرام، والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى).
إن رحلة الإسراء والمعراج لم تكن مجرد رحلة تسرية وتسلية لقلب النبي (صلى الله عليه وسلم) وفقط , بل كانت رحلة تربية وتهذيب لنا, فلعلنا ننتفع بهذه الدروس , ونحيي بها ما اندرس في النفوس.
تلك كانت أهم الدروس والعبر المستفادة من حادثة الإسراء والمعراج والتي يستفيد منها المؤمن في حياته العملية ليتعلم الصبر والتحمل وأن وراء كل ضيق فرجاً وبعد كل محنة منحة.
* إمام وخطيب جامع محمد الأمين