تجليات المكان في الغناء الشعبي العماني

الغناء الشعبي لدى شعوب منطقة الخليج يتشابه من حيث اللغة والمضامين والأساليب والألحان، إلا أنه يختلف في اللهجات، واللكنات، والعناصر التاريخية من أحداث وشخصيات ومُنعطفات، وعامِل المكان من وطنٍ وبلادٍ وطبيعةٍ وبيئةٍ وما إلى ذلك، ولعلّ الأخير وهو " المكان " يشكّل الفارق الكبير بين شعر منطقة ما عن منطقة أخرى، وهذا شيءٌ طبيعي فالبيئة تختلف من مكان لآخر، فهناك البيئة الصحراوية، وهناك البيئة الجبلية، وهناك بيئة المراعي والغابات الواسعة، وهناك البيئة الزراعية البسيطة المجاورة لساحل الخليج كالبساتين والنخيل، ونحن من خلال هذه الدراسة سنسلط الضوء النقدي على تجربة من تجارب الشعر الشعبي العماني في العصر الحديث، وهذه التجربة ليست أيّ تجربة وإنما تعتبر من التجارب الناجحة والتي حققت مكانتها في ساحة الغناء الشعبي العماني، ولعلّ تعدد المغنين الذين قاموا بأداء هذه الأغنيات دليل واضح على ذلك، وقد شدني في شعره الغنائي توظيف المكان بعدة أساليب ممكنة، وهو ما جعل من هذه القصائد ذاتَ عُلقة وثيقة بالمكان، وهو دليل على شدة تعلق الشاعر كإنسانٍ بالمكان الذي وُلِد ونشأ وترعرع وشبّ فيهِ، وكذلك شدّة تعلقه بالمكان وهو يشقّ طريقه في هذه الحياة كشاعرٍ عماني يُشار إليه بالبنان، حيث حقق ذاته وأعلن عنها بل وغنّى مشاعره وأحاسيسه الصادقة تجاه كل الأمكنة التي ارتبط بها.
عند قراءتي لهذا الديوان ( أشواق ابن الشرق ) وجدته يحتوي على 60 قصيدة باللهجة الشعبية العمانية وبالذات اللهجة التي درج وتربى عليها الشاعر " في الجزء الشرقي لمحافظة ظفار حيث ولاية سدح، وبالتحديد بالقرب من جبل نوس المتفرع من جبل سمحان الشامخ والذي يُعزى إليه إلهام الشعراء المحليين بألحان مستنبطة من البيئة الرائعة حيث إن هذا الجبل الذي يشكل رأساً صخرياً تنكسر فوقه الأمواج لتعطي إلهاماً شعرياً، وجبل نوس معلم فخر واعتزاز لدى الشعراء وأهالي المنطقة وأيضاً تهتدي به السفن البحرية القديمة دلالة على استبشار الوصول، فمن هذه الولاية التاريخية العريقة ظهر صوت هذا الشاعر بقصائده المحملة بالأشواق والعذوبة والمزينة بلوحاتٍ مرصعة بالخطوط الزاهية والألوان المتداخلة، ليسمع محبي القصيدة النبطية أنغاماً موظفة يطرب صداها كل شيء ".(1)
ولعل تأثر الشاعر بالبيئة والطبيعة من حوله وكذلك ولائه واعتزازه بأرضه ووطنه بشكل عام هو الباعث الحقيقي لهذه القصائد التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الموروث الغنائي الشعبي العماني، وقد جدت أن الشاعر قد أشار في أواخر بعض القصائد إلى من قام بتلحينها وغنائها، وقد أحصيت القصائد المغناة في هذا الديوان فوجدتها تبلغ 24 قصيدة - اعتماداً على إشارات الشاعر إلى آخر القصائد المغناة - ، وبما أن الدراسة ستصبّ جهدها في تناول عامل المكان في هذه القصائد المغناة، سنقوم بترتيب بياناتها في جدول خاص تسهيلاً لتناولها والإشارة إلى مختلف التقنيات الأسلوبية التي وظفها الشاعر لاستفادته من عامل المكان، وهذا ما يستفاد من المنهج النقدي التطبيقي، حيث سنطبّق معايير النظرة النقدية للنص على كل وحدة مكانية حسب نوعها وميزتها واختلافها عن الوحدات الأخرى.
وتوظيف المكان في النص الشعري له مساحاته الكبيرة في الشعر العربي مطلقاً، وليس في الشعر الشعبي فقط، ويمكن للقارئ الاطلاع على مختلف الدواوين الشعرية لكل الحقب الزمنية التي مرت على الأمة منذ العصر الجاهلي مروراً بالعصر الإسلامي حتى انتهاء الخلافة الراشدة، ومن ثم العصور التالية الأموي ثم العباسي، ثم ما بعد الدولة العباسية والدويلات الانفصالية والعصر التركي حتى العصر الحديث، ويمكنني طرح أربعة أمثلة من أربعة عصور مختلفة، كقول الشاعر الجاهلي امرئ القيس، وهو يذكر " دمون " وهي مساكن الحارث بن عمرو آكل المرار، وكان امرؤ القيس قد أنشأ لهم بها مساكن وسماها الصدف:
كأني لم أسمر بدمون مرةً ولم أشهد الغارات يوماً بعندلِ(2)
وفي دمون يقول أيضاً:
تطاوَلَ الليلُ علينا دمُّونْ .... دَمُّونُ إنَّا معشرٌ يَمانُــونْ
وإنَّنا لأهلِنــا مُحِـبّـــونْ
وقول الشاعر حسان بن ثابت، من العصر الإسلامي الأول وهو يتطرق إلى معركة الأحزاب التي تألبت فيها قوى الجزيرة العربية قاطبة على المدينة – والمدينة هنا هي المدينة المنورة، وهي مدينة أكثر الشعراء من التطرق إليها في أشعارهم قديماً وحديثاً:
حتى إذا وَرَدُوا المدينةَ وارتجَوا قتْلَ النبي ومغنمَ الأسلابِ(3)
وقول الشاعر الأموي العُجير السلولي عندما رفض الأصهار إلى الموالي إذ كانت ابنته قد زوّجها خالها إلى أحد أغنياء الموالي في هجرة والدها، ولما رجع العُجير وعلم بذلك رفض هذا الأصهار ومن ضمن ما قاله وهو يتطرق إلى الأرض التي قد يملأها من دماء من يعارضهم ويرفض مصاهرتهم:
تنالُونَها أو يخضِبُ الأرضَ منكمُ دمٌ خرَّ عنه حاجِبٌ وجبينُ(4)
وقول ميسون بنت بحدل الكلبية زوج معاوية بن أبي سفيان، وهي تتطرق إلى بيتها في الصحراء الذي تفضله على القصر المنيف، - والبيت هو مكانٌ من الأمكنة التي تطرق لها أغلب الشعراء- :
لَبيتٌ تخفقُ الأرواحُ فيهِ أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيفِ(5)
وقول الشاعر دعبل الخزاعي من العصر العباسي، وهو يهجو المطّلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي أمير مصر الذي أوى دعبلاً وولاه على مدينة أسوان ثم طرده بعدما بلغه أنه هجاه، ومما جاء في ذلك الهجاء قوله:
أمطّلبٌ أنتَ مُستعذِبٌ سِمامَ الأفاعي ومُستقبِلُ (6)
ستأتيكَ إمّا وردتَ العِراقَ صحائفُ يَأثُرُها دِعبِلُ
حيث نلاحظ أن الشاعر دِعبل الخزاعي، يتطرق إلى العراق، وهي مكانٌ من الأمكنة التي أكثر الشعراء من التطرّق إليها.
ثم نقفز بأمثلتنا للعصر الحديث فنقرأ للشاعر العماني محمد علي النهاري قوله في قصيدته الحائزة على المرتبة الأولى على مستوى السلطنة بالمهرجان الثقافي الفني للشباب عام 1983م، وقد وظف المكان في مجمل شعره بمختلف المستويات، ومنها ما جاء في هذه القصيدة:
العيدُ أقبلَ يا عُمانُ فكبّري للهِ ناصرُ تاجكِ السلطانُ(7)
وقوله موظفاً مفردة ( وطن ) :
أجمل به وطناً تخلّق شعبه بالحبّ لا زيفٌ ولا بهتانُ
وقوله موظفاً مفردة ( ديار ):
قابوس أهلاً في ديارك إننا نحمي حماك وكلنا عرفانُ
وقوله موظفاً مفردة ( بلاد ) و ( العمران ) و ( أرض ) و ( سهل ) و ( شاطئ ) :
من ذا الذي غمر البلادَ بحبه ما النهضة الكبرى وما العمرانُ؟
إلا صنيعك يا مطهّر أرضنا وجبالنا والسهل والشطآن
أما لدى شاعرنا المهندس أحمد بن علي الحبشي العمري، فقد التقطت الدراسة العديد من الأمثلة في قصائده الشعبية المغناة، وكلها تحتفي بالمكان بمختلف المستويات التي تحددها الرؤية العامة للمتلقي لأمثال هذه القصائد سواء بالقراءة أو بالاستماع، وقد شكّلت هذه القصائد ببروز ظاهرة المكان في تكوينها اللغوي والصّوَري توليفة غنائية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالوطن ومسرح المكان من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، وحقّ أن نطلق عليهِ شِعراً غنائياً عمانياً بمعنى الكلمة.
ويمكننا من خلال الرؤية للمكان وفق منهج قراءة هذه المجموعة الشعرية أن نتناولها وفقاً لما يلي: )المكان/الكون والفضاء(- (المكان/الطبيعة والبيئة والأرض) - (المكان/الوطن - بشكل عام – عمان - ) -(المكان/الوطن- بشكل خاص – المدن والقرى) - (المكان/الجزئي الخاص) - (المكان/الجزئي الأخص)، ووفق الرؤية التي يحددها منهج القراءة تنقسم كل تلك التقسيمات حول المكان إلى: مكان حقيقي -مكان مجازي - مكان حقيقي/مجازي.
ولكننا سنقتصر على بعض الظواهر من باب المثال، والقراءة الجمالية لظاهرة المكان في هذا اللون من الشعر.

في الشكل المرفق

في قصيدته ( صلالة ) يبدأ الشاعر بحرف الإشارة عندما يشير إلى هذه المدينة، فيقول: (هذِي صلالة)، ومن هذه الجملة التي سنعتبرها المدخل الرئيس لقراءة هذا النص عن أساليب توظيف المكان في الأغنية الشعبية العمانية، وجملة (هذِي صلالة) المنطوقة في البيت الأول من هذه الأغنية المُسمّاة (صلالة) يمكن أن نفهم منها أسلوب الجواب المنتهي بنقطة، وذلك إشارة للإجابة النهائية بعد سؤال أو عدة أسئلة تستفسر عن المكان الجميل الذي ليس كمثله شيء آخر يشابهه في الجمال.
كما نفهم من هذا الجواب إذا تغيّرت النبرة قليلاً وأصبحت بأسلوب طرح السؤال بطريقة النطق أن الشاعر يستخدم اسم الإشارة ويريد الافتخار وهذا هو الأقرب في تركيب الصورة، فيقول:
هذِيْ صلالهْ وهذا الخريفْ يا جنّهْ ما لها مِنْ مثيلْ
ثم يتابع على ذات المنوال فيقول:
هذِي صلالهْ وهذِي التلالْ قد اكتست إخضرار وجمالْ
غير الشواطئ وسحر الرمالْ ما ينبغي لك يا زائر دليلْ
ويتابع الشاعر تغنّيهِ بالمكان حيث ينطلق في بادئ الأمر من صلالة ذاتها ثم يفصّل ما في هذه المدينة الجميلة من شواطئ بديعة، وما يلاصق هذه الشواطئ من الرمال الجميلة الساحرة.
ويواصل الغناء على وتر المكان فيقول:
شوف الطبيعة في هضبة أتينْ حمرير نبض الشجن والحنينْ
وأشور، دربات، نظرهْ وزينْ نزهه ومتعه وكل شيء جميلْ
فيعدد الشاعر أماكن أخرى في صلالة كالطبيعة الخضراء، وهضبة أتين، وحمرير، وأشور، ودربات،وكلها معالم تعكس الجمال المترامي على الرقعة الجغرافية لصلالة فأصبحت آية من آيات الإبداع حباها الله بها.
أما في الدور الثالث من القصيدة يختمه بذكرهِ لأربعة أماكن حيث يقول:
في بن علي سمهرم والبليدْ وأحقاف شامخ لماضي جليلْ
فــ ( بن علي ) و ( سمهرم ) و ( البليد ) و ( أحقاف ) كلها من الأماكن التي تعكس جمال صلالة.
في الدور الرابع من القصيدة يعود إلى ذكره مدينة صلالة وهي في عزّ الخريف، حيث اشتهر باسمها (خريف صلالة ) وقد أطلقوا هذا الاسم على مهرجانها السنوي الشهير فيقولون ( مهرجان خريف صلالة )، حيث سحر الضباب الذي يعمّ المدن والأرياف، وينتشر الرذاذ في الجوّ وفي كلّ مكان، فيقول:
الناس في وسط حراً وصيفْ وأما صلالهْ في عز الخريفْ
سحر الضباب عم مدناً وريفْ رذاذ خرفي وجواً عليلْ
أما في الدور الخامس من القصيدة فيعبر الشاعر عن المكان باعتباره جزء من الطبيعة، حيث يتطرق إلى نود العصير، والمراعي، والعيون، وكلها أماكن جزئية من الطبيعة العمانية الكبيرة.
المكان المجازي:
قصيدة ( مشيت الدرب ) تتكون من مفتتح وهو عبارة عن بيت واحد ثم خمسة أدوار كلّ دورٍ يتكون من بيتين وينتهي البيت الثاني من كل دور بقافية اللام المسبوق بحرف الواو، ويلجأ الشاعر في قصيدته هذه إلى توظيف المكان المجازي عندما يقول:
مشيت الدربَ لاجلك ما أبالي غبشت الفجر وسريت الليالي
فالشاعر هنا لا يذكر المشي في الدرب على الحقيقة وإنما على المجاز، فالدرب بمعناه الظاهري هو طريقٌ من الطرق التي يسلكها الناس لمكان ما يقصدونه من خلاله، وإن قصد الشاعر الدرب بعينهِ فلا ضير فهو هنا ينطلق إلى محبوبته من خلال الدرب الذي يمشي فيه ولا يبالي، ولكن الأبلغ في مفهوم الصورة هو الدرب المجازي.. الدرب إلى أخطار الحب وعراقيله وعقباته.
يكرر الشاعر أسلوبه في الدور الثاني من القصيدة عندما بدأ الدور بجملة ( بحور العشق ) وهو تعبير مجازي، فالبحور على الحقيقة هي ما نعرفها من المساحات الكبيرة من المياه التي تشكّل ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وهو هنا يضيف العشق إلى كلمة بحور من باب المجاز.
الحوار مع المكان:
في قصيدته ( أمواج ) المكونة من مفتتح وهو عبارة عن بيت واحد ثم 7 أدوار كلّ دور يتكوّن من بيتين وينتهي البيت الثاني من كلّ دور بحرف الحاء المسبوق بالياء.
في هذه القصيدة يلجأ الشاعر إلى تقنية الحوار مع المكان، وهو من الأساليب الشعرية الجميلة التي تلفت المتلقين وتشد انتباههم، كما أن الحوار مع المكان من التقنيات الشعرية المستعملة لدى العديد من الشعراء قديماً وحديثاً، وها نحن نقرأ في معلقة زهير بن أبي سلمى وهو يوجه حديثه للدار والرّبع:
فلما عرفتُ الدارَ قلتُ لربعها ألا أنعمْ صباحاً أيها الرّبع وأسلمِ(8)
وكذلك نقرأ للنابغة الذبياني قوله في معلقته وهو يدعو لتحية ما اجتمع من آثار الديار كلفتةٍ خطابية مع المكان، وهي تكثر في الشعر الجاهلي، وقد عرفت بالوقوف على الأطلال :
عوجوا فحيوا لنعمٍ دمنةَ الدّارِ ماذا تحيون من نؤى وأحجارِ(9)
والأمثلة كثيرة لدى شعراء مختلف العصور حتى عصرنا الحديث، ليس في القصيدة الفصيحة فقط وإنما في الشعر الشعبي بأنواعه وفي مختلف مناطق عالمنا العربي، أما في قصيدة شاعرنا العمري ( أمواج ) فقد وظف الشاعر تقنية الحوار بطريقة قلت وقالت، وهي طريقة معروفة لدى العديد من الشعراء قديماً وحديثاً، فهو في بادئ الأمر وفي بيت الافتتاح يخاطب قلبه بقوله:
ما بي من الأشجان يا قلبي كفىْ.. اسامر الأمواج لعلي أستريحْ
مما يدل على أن الشاعر كان يجلس على شاطئ البحر يسامر الأمواج التي يراها ذاهبة وآتية، ويحدّث قلبه عن أشجانه ويأمره أن يكفّ عن ذكرها، وهو لم يأتِ لمسامرة هذه الأمواج إلا ليستريح من أشجانه التي أتعبته.
جلسة الشاطئ للعاشق سمرْ فيها ينفس عن همومه والكدرْ
وأنا مع الأمواج على ضوء القمرْ نتبادل الأحزان في جواً صريحْ
يقرر الشاعر أن جلسة الشاطئ للعاشق الوله من جلسات السمر التي ينفّس فيها الشاعر عن همومه وكدره، ثم يُشرك الشاعر ضوء القمر في هذه الصورة السمرية الجميلة، حيث لا تكون جلسات السمر إلا في الليل حيث ضوء القمر، ويُقرر أنه يتبادل الأحزان مع الأمواج، حيث أسقط على الأمواج صفة إنسانية أو ما أطلق عليه النقاط تشخيص الأشياء، أو شخصنة الأشياء، ولا يصنع هذه الصورة إلا الشعراء والفنانين المبدعين الذين يتحاورون مع جميع الأشياء من حولهم.
وفي الدور الثاني من القصيدة يلاحظ الشاعر ابتعاد الأمواج عن الشاطئ، وهي ربما للحظات ثم تعود ولكنه يتألّم من هذا الابتعاد لأنه يحتاج إلى قربها منه حتى تشاهد ما حل به وهو على بساط الشوق محزوناً وطريحاً.
قلت يا أمواج رجاء لا تبعديْ بحق رب الكون وبحقّ النبيْ
كوني معي وشاهدي ما حل بيْ على بساط الشوق محزوناً طريحْ
والحديث مع الأشياء غير العاقلة في الشعر العربي كثير جداً، فهناك من حدّث الدار كعنترة، وهناك من حدّث شجر الأراك، وهناك من حدّث الآثار الدارسة والأطلال، والأمثلة كثيرة في تراثنا الشعري العربي.
في الدور الثالث من القصيدة ينتقل الشاعر إلى حديث الموج ذاته معه، حيث يستنطقه الشاعر بقوله:
قالت الأمواج ما بك يا فتىْ ساهر في عز البرد وليالي الشتَا
أراك مهوماً قل لي من متىْ إن قلت لي والله ما سرك أبيحْ
وحديث الأشياء مع الشاعر واردٌ في الشعر العربي أيضاً تماماً كورود حديثه هو مع الأشياء من حوله، بل إن أسلوب الحديث المتبادل بطريقة قالت وقلت وارد بأكمله لدى العديد من الشعراء.
أما في الدور الرابع من القصيدة يردّ الشاعر على تساؤل الأمواج عما به ولماذا هو ساهر في عزّ البرد وليالي الشتاء ولماذا يراه الموج مهوماً ويقول له منذ متى وهو مهوم في هذه الحالة، ثم يقسم الموج أن لا يبيح بسره إن هو أخبره، فيقول الشاعر:
قلت يا أمواج حبيت اللطيفْ من نور وجهه يبصر الأعمى الكفيفْ
وحركته إيقاع والدمّ الخفيفْ أمير كل الغيد وتاجاً للمليحْ
لقد كان جواب الشاعر وصفاً للحبيبة التي تتيم بحبها، فهي لطيفة، ونورُ وجهها يجعل من الأعمى مبصراً، وحركته كالإيقاع الموسيقي، ويمتازُ بخفة الدم، وهي أميرة كلّ الغيد، وهي بمثابة التاج الذهبي لكلّ مليحة كناية عن كونها أنموذجاً لكلّ الحسناوات، وتتمنى أن تضعها كل حسناء مثالاً لها.
وفي الدور الخامس من القصيدة ينتقل الحديث إلى الأمواج التي تنصح الشاعر بأن يبادر بالحكي والقول مع الحبيبة، وأن يصارحها بما يجول في خاطره، وأن يسمع لرأيها، وأن ينصت لكيفية ردّها وأقوالها، وتقرر الأمواج أن هذا الأسلوب في المبادرة مع الحبيبة هو الدرب الصحيح.
قالت الأمواج أحكي له وقولْ (10) وصارحه باللي(11) في الخاطر يجولْ
وأسمع لرأيه كيف وماذا با يقولْ(12) هذي نصيحه وها هو الدرب الصحيحْ

الهوامش:
1- بتصرف من " قراءة في الديوان " بقلم الشاعر/ محمد بن أحمد دعاس المعشني، مثبتة في " ديوان أشواق ابن الشرق" -محل الدراسة- ، ص: 148.
2- " ديوان امرئ القيس أو الملك الضليل " ، تحقيق: د. محمد رضا مروة، الدار العالمية، بيروت، لبنان، ط: 1، 1413هـ- 1993م، ص:141.
3- " شعراء حول الرسول صلى الله عليه وسلم "، د. عبد الله بن محمد أبو داهش، نشر نادي المنطقة الشرقية الأدبي، الدمام، ط: 1، 1417هـ- 1997م، ص: 31.
4- " الحياة الاقتصادية وأثرها في الشعر الأموي "، إنعام موسى إبراهيم رواقه، نشر: الوراق للنشر والتوزيع، الأردن، عمّان، ط: 1، ص: 100
5- المصدر السابق، ص : 101
6- " الجامع في تاريخ الأدب العربي- الأدب القديم – "، حنا الفاخوري، دار الجيل، بيروت، ط: 1، 1986م، ص: 737، 738.
7- " مجموعة القصائد الوطنية "، للشاعر محمد بن علي بخيت النهاري، طبع المطابع العالمية، روي، سلطنة عمان، دون ذكر تاريخ النشر، ص: 2.
8- جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، المرحوم السيد أحمد الهاشمي، دار الفكر، ط: 26، 1385هـ- 1965م، ج: 2، ص: 47.
9- جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، المرحوم السيد أحمد الهاشمي، دار الفكر، ط: 26، 1385هـ- 1965م، ج: 2، ص: 41.
10- قول : بإثبات الوا لأنها من اللهجة العامية، فلا مجال لتطبيق القواعد النحوية في اللهجة العامية لأنها لهجة سماعية مُتوافق عليها في العرف الشعبي.
11- اللي في اللهجة العامية بمعنى الذي.
12- با يقول في اللهجة العامية : يقول.. والباء حرفٌ للوصل في الكلام في اللهجة العمانية.

عقيل بن ناجي المسكين
[email protected]