لقد جاء الإسلام الحنيف والناس حينئذ شيعا أفواجا متفرقين في وحدتهم الاجتماعية والدينية وغيرها، فمنهم الوثني، ومنهم اليهودي، ومنهم النصراني، وهكذا شأن اعتقادهم واتباع مللهم حسب أهوائهم. وقد كانت رسالة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - دعوة إلى الناس كافة لمن أراد أن يدخل في دين الله، أو يبقى على دينه مع أداء الواجب عليه تجاه الدولة المسلمة، وهذا مبدأ أصيل أقره الإسلام في تعاطيه مع ساير الناس، يقول الله تعالى:(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)"البقرة/256". وقال تعالى:(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)"الكهف/29"، ويقول في شأن عدم القدرة على إكراه الناس على الإيمان بالله ورسوله:(وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)"يونس/99". فالمولى اقتضت حكمته وجود المسلم والكافر لعلمه الأزلي بأن الناس لن يكونوا على دين واحد كلهم، وإنما سيختار كل واحد منهم ما يراه ويقتنع به بل إنه سيضحي من أجل الدفاع عنه، وهنا تبدأ مرحلة البلاء والاختبار للخلق حيث يقرر كل واحد مصيره بناء على فعله. لقد جاء تحديد الدين الرسمي للدولة العمانية، وكذلك تأكيد انتمائها إلى الشريعة الإسلامية، وذلك في الباب الأول من النظام الأساسي للدولة وضمن المادتين الأوليين منه وذلك بالقول: "المادة (1): سلطنة عمان دولة عربية اسلامية مستـقلة ذات سيادة تامة عاصمتها مسقط. المادة (2): ديـن الدولة الاسـلام والشريعـة الاسلاميـة هي أسـاس التـشريع". غير أن تحديد الدين الرسمي للدولة العمانية في دستورها لا يعني بأي حال من الأحوال احتكار الحق في حرية الفكر والتدين في مذهب معين دون سواه، فقد جاءت المادة (28) من ذات النظام مقرة حرية القيام بالشعائر الدينية في السلطنة بشرط عدم الغلو في ذلك أو الخروج عن قيم وعادات وآداب المجتمع، حيث نصت على إن: "حريـة القيـام بالشعائر الدينية طـبقا للعـادات المرعيـة مصونة على ألا يخل ذ لك بالنظام العام، أو ينافي الآداب". كما إن المادة (18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أقرت لكل فرد الفكر والتدين والاعتقاد الذي يراه لتوظيف هذا الحق فقالت: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر، ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرا أم مع الجماعة". غير أن هذه المادة بها من العور من يشوب الحفاظ على مقصد حفظ الدين في الشريعة الإسلامية إذ لا يمكن أن يرجع الإنسان المسلم عن عرى الإسلام بعد اعتناقه وإلا دخل في دائرة الارتداد الذي يؤدي إلى فساد البلاد وإفساد العباد حيث إنه سيصبح فتنة في البلد المسلم وغير المسلم وسيشكل عاملا لإغواء وإهواء ضعفي النفوس والعقيدة. كما أقر العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لحقوق الإنسان حق حرية اعتناق مذهب أو دين ما وذلك ضمن بنوده في المادة (١٨). وكذا تأيّد هذا الحق بنص المادة (10) من إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام، حيث نصت على فطرة الإسلام وحرية الأديان واعتناقها، وذلك بقولها: "الإسلام هو دين الفطرة، ولا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه علي الإنسان أو استغلال فقره أو جهله على تغيير دينه إلى دين آخر أو إلى الإلحاد. والمادة (11): أ- يولد الإنسان حرا وليس لأحد أن يستعبده أو يذله أو يقهره أو يستغله ولا عبودية لغير الله تعالي". إن ما تعانيه بعض شعوب العالم اليوم قضية وظاهرة التطرف في الدين وهي تُعدُّ من الانتهاكات الصارخة، والجرائم الفاضحة، للأديان السماوية، والحقوق الإنسانية الدينية، فلا يجوز بل يحرم على أي فرد أو أية مؤسسة مهما كان أتباعها، أو قويت شوكتها، أو برزت نجاحاتها، أن تفرض تبعية المعتقد أو الفكر على فرد أو مجتمع ما (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)"الشورى/21". كما أن من الأمور التي يصرخ تحت وطأتها الناس اليوم فرض السياسة على الدين فنرى - وللأسف الشديد - استغلال بعض الدول القوية اقتصاديا جبر الشعوب ضعيفة المورد الاقتصادي على تبعيتها لدين أو مذهب أو فكر معين نظير تسهيلات أو مساعدات مالية أو إعمارية مستغلة بذلك حاجتها وعوزها وقلة حيلتها وهذا أمر ترفضه الشريعة الإلهية وتجرمه القوانين الدولية والإقليمية وتأبه الأعراف والقيم الأخلاقية والعرفية الأصيلة في التعايش الإنساني الرحب. كذلك من ضمن الممارسات التي أصبحت منتشرة في بعض شعوب العالم الإسلامي اليوم مع الأسف الشديد فرض التوجهات الشخصية البحتة التي تدعو إلى تجرد الإنسان وانحلاله من قيمه الإسلامية وأعرافه الاجتماعية نتيجة لمساومات وظيفية أو عود للحصول على منافع شخصية وهو أمر تأبه قيم الإسلام ويتصادم مع سياسة ومقاصد النظام الأساسي للدولة العمانية وكذلك مع القوانين المحلية والإقليمية والدولية. إن سياسة الدولة العمانية وضمن حقب حكم أئمتها وسلاطينها على مختلف الحقب الزمانية، وتعدد الجهات المكانية لنفوذها وسلطتها مارست حق القيام بالشعائر الدينية وفق الاقتناع وبعيدا عن مبدأ التسلط لأجل الاتباع، يتجلى ذلك في قول الإمام الصلت بن مالك لجنده إلى جزيرة سقطرى: (وإن كرهوا أن يقبلوا الإسلام ويدخلوا فيه فلتدعوهم إلى الرجعة من نكثهم والتوبة من حدثهم إلى الدخول في العهد الأول الذي كان بينهم وبين المسلمين، على أن لهم وعليهم الحق بحكم القرآن وحكم أهل القرآن من أولي العلم بالله وبدينه من أهل عمان..) "انظر: اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، وثيقة الإمام الصلت بن مالك). وهكذا هو شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلفه الصالح من هذه الأمة، فالمدينة المنورة لم يكن يسكنها المسلمون فحسب، بل اليهود وكانوا معاهدين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين من حقوق وواجبات. وهكذا دأب الخلفاء الراشدون وما فعله الفاروق عمر بن الخطاب من إبقاء كنائس الأقصى عند فتح بيت المقدس خير شاهد تاريخي على سماحة الإسلام في حفظ حق القيام بالشعائر الدينية. أما يفعله بعض الغثاة والهمل - الذين يدعون زورا وبهتانا نسبتهم إلى الإسلام - وهم يقتلون ويصلبون ويأسرون العباد في البلاد؛ نتيجة لرفضهم الاتباع والانصياع لتيارات فكرهم المتشددة المنحرفة، فإن الإسلام وأهله العاملين بتعاليمه، الواقفين عند حدوده، المطبقين لأحكامه، الداركين لمقاصد تشريعه، براء من عمل مثل هذه الفئات والجماعات. محمد بن سيف بن دويّم الشعيلي - المحكمة العليا.