نماذج من قصائد الرثاء في الشعر العماني

نظرا لأهمية الربط بين الجانبين النظري، والتطبيقي؛ فإنني سأتطرق إلى نماذج من القصائد الشعرية لثلاثة عصور أدبية مر بها الأدب العماني وتتمثل هذه العصور في العصر النبهاني، والعصر اليعربي، والعصر البوسعيدي.
وقد اخترت من العصر النبهاني قصيدة للشاعر الستالي أبو بكر أحمد بن سعيد الخروصي قالها في غرض الرثاء، وفيها يقول:

هي النّفس من ذكر الممات نفورُها مخافةَ مكروه إليه مصـــــيرها
وما أمنُها أو خوفها في حياتها من الموت إلاَّ برُّها وفجورهُها
ولو أحسنَ استعدادَها لوفاتها لهانَ لذكراها عليه حُضورُها
من اتخذ البرهانَ والفحص عُدَّةً تبَيَّنَ ما حقَّ الأمور وزُورُها
وتفجأ بالرّوعاتِ منها عقولها ويُلفَى قليل الارتياع حَذورُها
عرفنا من الدُّنيا زوالَ نعيمها فما يدّعي مُختالها وفخُورُها
إلى منتهى أعمارنا فطويلها سواء إذا وافى المدى وقصيرُها
ومستمتعاتُ العيش من غير حِلَها عواريُّ مغرورٌ بها مستعيرُها
أحاول في دنيايَ زهداً وكيف لي
به ومُرادي أن يتمَّ سرورُها
ونجعل للأيام ذنباً بغدْرها ونزعم أنا يطَيّبنا غرورُها
متى غالب الدُّنيا من النّاس عاقلٌ بداهية لم يأت عنها نذيرُها
وفي كل يوم لا يزال محذّراً رواحُ المنايا بيننا وبكُورُها
كذلك أبناء القرون التي مضَت ألمٍ تتبيَن كيف آلت أُمورُها

ومن العصر اليعربي نعرض أحد النماذج الشعرية وهي قصيدة للشاعر الغشري (سعيد بن محمد بن راشد بن بشير الخليلي الخروصي)، التي قالها في رثاء الشيخ خميس بن مبارك الخروصي حيث يقول فيها (ديوان الغشري، 280):
هو الخطب حتى صار كل معظم حقيرا وجاءت مقلة العين بالدم
كطود ثوى من آل زيد به احتمت قبائل شتى من نزار وجرهم
خميس فنفس واحد غير أنه
به قد غنينا عن خميس عرمرم
لقد نال سلطانا ولكنه اكتسى التواضع كالفقير المقدم
وخوّل أمرا نافذا غير أنه تسربل بالحلم الرزين المخيّم
فمات وما ماتت أيديه في الورى يعددها الراوون في كل مجثم
مصيبته ما خصت الأزد وحدها ولكنها عمّت على كل مسلم

ومن عصر آل بوسعيد قصيدة الرثاء الباكي (93) للشاعر ( أبو سرور حميد بن عبدالله الجامعي ) التي قالها يرثي بها عمه الراحل إمام المسلمين محمد بن عبد الله الخليلي 1373 ه:
أأصيـبت في مقلتيها السماء * فبكت من بكائها الغبراء
أم أصيبت في عقلها هذه الدا * ر فتاهت وتاه فيها الفضاء
أم أصيب الإنسان في جنسه الحـ * ـي فجلّ البلا وحل الفناء
أم أصيـبت للحق آياته البيـ * ـض فهامت بليلها السمحاء
نبأ ما قد فاجأ الكون أدهى * من قضاء إن حم يوماً قضاء
مصمئل تكاد تنكفئ الأر * ض بشدقيه أو تخر السماء
لم يرعني فحسب بل ريع منه الـ * ـكون حتى الضياء والظلماء
فاجأتني منه بوادره السو * د بسوء قد شق عنه اللحاء
فتراميت تحتها ألمس الصبـ * ـر وهيهات أن يعين العزاء
وقد أجاد الشعراء الثلاثة في قصائدهم وسأشير إلى نقاط عامة وسريعة لأن تناول المحتوى بالتحليل والتدقيق في المبنى والمعنى يحتاج إلى كثير من التفصيل والتدليل المبني على منهجية علمية في التحليل الأدبي. فمن الناحية الشكلية، نجد الشاعر الستالي قد استخدم إيقاع بحر الطويل الذي يتناسب مع اختلاف آثار الزمان في الناس، كما أنه استخدم الأدوات التصويرية التي تنقل لنا لوحات حزينة مثل تخيله تهدم القصور وخراب القرى موظفا الكلمات والجمل التي تساعد على نقل لوحة فنية مؤثرة فجاءت ألفاظه دقيقة وجمله متلائمة لموضوع الرثاء.
إضافة إلى براعته في التصوير الداخلي لتجربته الشعرية حيث أنه كان صادقا فنيا حينما عبر عن شدة حزنه بأدوات فنية دقيقة خالية من الزيف، والتصنع أو الركاكة، والتكلف. فجاءت عباراته معبرة عن شعور صادق وتجربة حية تتسم بقوة العاطفة وحرارتها. كما أن الشاعر نجح في عرض المعاني التي أراد التعبير عنها وهي معاني الحزن والتوجع والعظة والعبرة لأنها تعتبر من الأسس والركائز في قصائد الرثاء.
أما الشاعر الغشري فقد نظم قصيدته على بحر الطويل والذي تفعيلاته :
فعولن مفاعلين فعولن مفاعلين فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
وهو من الأبحر الذي كثر استعماله واتصف بسعته لكثير من المعاني، وطول النفس فصار أرحب صدرا وأفضل بحرا من هذه الناحية. كما نلاحظ اعتماده على الأساليب البلاغية، كالكناية والتشبيه، وغيرها. ووجود هذه الأساليب إنما يدل على رغبة الشاعر في صياغة أحاسيسه ومشاعره بطريقة تؤثر في القارئ وتجذبه.
في حين نجد أن الشاعر الخليلي قد ضمّن أبياته أدوات فنية متناسبة مع الغرض مثل استخدامه بحر الوافر كونه يتناسب مع عاطفة الشاعر الثائرة بسبب الحزن، واستخدم الألفاظ والجمل استخداما دقيقا مشيرا من خلالها إلى التأثر الشديد لفقد المرثي. أضف إلى ذلك أن القصيدة احتوت صدقا فنيا عبّر عن إحساس صادق تدلّ عليه دقة العبارات وجودتها، وعمق المفردات وقدرتها على الإشعاع؛ فقد نجح الشاعر في نقل تجربته الشعرية نقلا أمينا صادقا وصوّرها تصويرا متلائما مع طبيعة فن الرثاء ومتطلباته.

وفاء الشامسية