علي بن سالم الرواحي:
.. والحادثة قد تقع من النبي (صلى الله عليه وسلم) كعبوسه من ابن أم مكتوم جاءه ليطلب منه علماً وتزكية فلم يجبْه لانشغاله عليه الصلاة والسلام بدعوة زعماء قريش وكان يطمع في هدايتهم فعاتبه ربه جل جلاله عتاباً جميلاً بقوله:(عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) (عبس 1 ـ 3), فكان بعد ذلك يبشّ في وجهه ويقول:(مرحباً بمن عاتبني فيه ربي).
وقد تقع من الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ كنزول الرماة في غزوة أحد من الجبل و كاعجاب بعض الصحابة بكثرة عددهم في غزوة حنين, وكظهار أوس بن الصامت, ولعان هلال بن أمية.
وقد يقع من المشركين كسورة المسد نزلت بسبب من أبي لهب حين قال:(تبا لك يا محمد ألهذا جمعتنا) وكان الرسول (صلى الله عليه سلم) جمع قريش يحذرهم من عذاب الله و يدعوهم إلى الإيمان بالله.
وقد تقع الحادثة من المنافقين كالآية الكريمة:(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون ـ 8) نزلت إثر قول عبدالله بن أبيّ بن سلول وأصحابه للنبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك اثناء عودتهم من غزوة بني المصطلق.
وقد تقع من أهل الكتاب كمثل ما ذكر ابن عباس عن سبب نزول قوله تعالى:(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (البقرة ـ 120), بأن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى قبلتهم فلما غير الله القبلة إلى بيته الحرام أيسوا أن يوافقهم النبي (صلى الله عليه وسلم) على دينهم فنزلت الآية لتعكس أحاسيسهم تجاه النبي وصحبه.
وأما السؤال الذي هو سبب للنزول فقد يقع من المسلمين, كسؤالهم النبيَّ عن الحيض ـ وهي شيء حاضر ـ فنزلت الاية الكريمة:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(البقرة ـ 222).
وقد يقع السؤال من اليهود كسبب نزول الآية الكريمة:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)(الاسراء ـ 85) وهو سؤال عن الحاضر.
وقد يقع السؤال من المشركين إلى النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) كسؤالهم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين ـ وهي أسئلة عن الحاضر والماضي ـ وكان ذلك بايعاز من يهود المدينة, فأنزل الله الجواب الشافي في سورة الكهف وفي آية الروح السابقة, ومن هنا تُحمَل آية الروح على نزولها مرتين على الرأي الأرجح, مرة في مكة إجابة للمشركين ومرة أخرى بالمدينة إجابة لليهود, والله أعلم.
كذلك يقع السؤال من الناس كقوله تعالى:(يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا)(الأحزاب ـ 63) وهو سؤال عن مستقبل غيبي, فالناس هم أهل مكة ويهود المدينة حيث سأل الأولون تكذيباً بينما سأل الآخرون امتحاناً.
ولم أقف على سؤال صدر من المنافقين ووقع كسبب نزول.
كيف نعرف سبب النزول؟
لكن كيف نحكم أو نعرف أن تلك الحادثة أو هذا السؤال سبباً للنزول, الحقيقة أن سبب نزول الآيات غير قابل للاجتهاد لأنه ظني لجواز الخطأ فيه ولا يجوز أن نحمل الآيات بمحمل الظن, كما أن سبب النزول هي واقعة تاريخية خاصة لا يمكن الاستعاضة عنها بأخرى, لذلك نهى الله جل جلاله عن ذلك في معرض ذمه لأهل الكتاب فقال:(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)(آل عمران ـ 75), كما نهى الله عن اتباع الشيء المجهول, فقال سبحانه:(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)(الاسراء ـ 36), ومن السنة جاء حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)، ففي هذا الحديث وعيد شديد وهو العذاب الأخروي الأبدي وذلك لمن يتقوَّل على القرآن بغير علم, ونحن نعلم أن بعض الآيات النازلة على أسباب خاصة إنما يعرف أسبابها من شاهد تنزلاتها أو سمِع عنها من نقل أخبارها عبر الزمان والمكان, فتلك الأسباب توقيفية لا يُقاس عليها غيرها من الأسباب لأن الحوادث الواقعة بعد الوحي لا يجوز أن تُسمَّى أسباباً لأنها وقعت بعد النزول كما أن الحوادث الواقعة إبّان الوحي لا يجوز أن تكون سبباً لنزول تلك الآية هكذا جُزافاً وأنما يُقال لها ذلك عن علم ويقين, والله أعلم, ولله در الواحدي إذ يقول:(ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب)، ويقصَد بالرواية أي الصحيحة الثابتة, ويوجد قرابة مائتي رواية مقبولة لدى أهل الحديث وأهل التفسير في أسباب النزول كما إن أغلب هذه الأسباب كانت في الأحكام العملية والله أعلم.
والرواية قد تُسنَد إلى صحابي الذي شاهد الحادثة فيكون لها حكم المرفوع المُسنَد وهو القبول لأنه كما قلنا رواية سبب النزول لا تنتج من رأي بل شبيه بما يُرفَع إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد تكون مسنَدة إلى التابعي فهي بحكم الحديث المرفوع المرسل لسقوط الصحابي الذي أخذ عنه هذا التابعي فلا يُقبَل إلا بشروط هي:
ـ أن يكون التابعي من ائمة التفسير الذين درسوا على أيدي الصحابة مثل مجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس ـ رضي الله عنهما.
ـ أن يقويه حديثٌ مرسلٌ آخر.
وطبعاً في كلتا الحالتين أي رواية الصحابي ورواية التابعي يجب أن تكون عباراتهما صحيحة حتى يُجْزًم بها كسبب للنزول وسنبينها إن شاء الله لاحقاً.