إعداد ـ محمد عبدالظاهر عبيدو:
أيها الإخوة القراء: لقد بدأ شهر رجب وهو مقدم الاشهر الحرم ومقدم الشهر المبارك رمضان .. وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا دخل رجب دعا فقال :(اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان) ونحن ندعو بما دعا به رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم).
هذا وكلنا يعرف الأشهر الحرم وأنها أربعة، لكن قليل منا من يعرف أحكامها وما الواجب على المسلم فيها، وما معنى (فلا تظلموا فيهن أنفسكم)، وهل أحكامها مقتصرة على الجهاد أم هناك أمور أخرى يجب مراعاتها؟ ومن هنا أيها القراء الأعزاء سأكتب اليوم عن هذا الموضوع.
فالأشهر الحرم هي:(ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب)، كما في الصحيحين من حديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب، شهر مُضر، الذي بين جمادى وشعبان)، وقوله:(ورجب شهر مُضر الذي بين جمادى وشعبان)، لأن ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً، وكانت مضر تحرم رجباً نفسه، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم):(الذي بين جمادى وشعبان) تأكيداً وبياناً لصحة ما سارت عليه مُضر، وأما مضاعفة الثواب والعقاب في هذه الأشهر، فقد صرح بها بعض أهل العلم استناداً لقوله تعالى:(إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (التوبة ـ 36).
قال القرطبي ـ رحمه الله: لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار الله إلى هذا بقوله:(يا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) (الأحزاب ـ 30).
وقال ابن كثير في تفسيره :(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى:(و مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج ـ 25).
ومن هنا نجد أن الأشهر الحرم فضّلها اللّه على سائر شهور العام، وشرّفهنّ على سائر الشّهور فخصّ الذّنب فيهنّ بالتّعظيم، كما خصّهنّ بالتّشريف، وذلك نظير قوله تعالى:(حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى) قال ابن عبّاسٍ: خصّ اللّه من شهور العام أربعة أشهرٍ فجعلهنّ حرماً، وعظّم حرماتهنّ، وجعل الذّنب فيهنّ والعمل الصّالح والأجر أعظم، وعن قتادة: الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً من الظّلم فيما سواها، وإن كان الظّلم في كلّ حالٍ عظيماً، ولكنّ اللّه يعظّم من أمره ما شاء، فإنّ اللّه تعالى اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن النّاس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشّهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيّام يوم الجمعة، واصطفى من اللّيالي ليلة القدر
قال قتادة: فعظّموا ما عظّم اللّه، فإنّما تعظّم الأمور بما عظّمها اللّه عند أهل الفهم وأهل العقل.
* ما تختصّ به من الأحكام
وتعالوا بنا نتكلم عب اهم الأحكام المخصوصة لهذه الأشهر:
ـ القتال في الأشهر الحرم: كان القتال في الأشهر الحرم محرّماً في الجاهليّة قبل الإسلام، فكانت الجاهليّة تعظّمهنّ وتحرّم القتال فيهنّ، حتّى لو لقي الرّجل منهم فيهنّ قاتل أبيه أو أخيه تركه، قال النّيسابوريّ في تفسير قوله تعالى:(ذلك الدّين القيّم)، أي هو الدّين المستقيم الّذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وقد توارثته العرب منهما فكانوا يحرّمون القتال فيها ثمّ جاء الإسلام يؤيّد حرمة القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى:(يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل).
ـ هل نسخ القتال في الأشهر الحرم؟
اختلف أهل التّأويل في الآية الّتي أثبتت حرمة القتال في الأشهر الحرم، وهي قوله تعالى:(يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ) هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم؟ قال بعضهم: إنّ ذلك حكمٌ ثابتٌ، لا يحلّ القتال لأحدٍ في الأشهر الحرم، لأنّ اللّه جعل القتال فيه كبيراً.

وقال بعضهم: هو منسوخٌ بقول اللّه عزّ وجلّ:(وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً) وردّ ذلك عن الزّهريّ وعطاء بن ميسرة.
قال عطاء بن ميسرة: أحلّ القتال في الشّهر الحرام في براءةٌ قوله تعالى:(فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً)، يقول: فيهنّ وفي غيرهنّ، وعن الزّهريّ قال: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرّم القتال في الشّهر الحرام ثمّ أحلّ بعد)، قال الطّبريّ: والصّواب من القول في ذلك ما قال عطاء بن ميسرة من أنّ النّهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرم منسوخٌ بقول اللّه عزّ وجلّ:(إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق اللّه السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً)، وإنّما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله تعالى:(يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه
قل قتالٌ فيه كبيرٌ) لتظاهر الأخبار بذلك عن رسول اللّه.
ـ تغليظ الدّيات في الأشهر الحرم: اختلف الفقهاء في تغليظ دية القتل في الأشهر الحرم أو عدم تغليظها ، فبعضهم يرون تغليظ الدّية للقتل في الأشهر الحرم,وبعضهم قال لا تغلظ الدية.
اشتمال هذه الأشهر على فضائل وعبادات ليست في غيرها، وهي مشهورة، ولذا سأكتفي بالتذكير بها.
ـ الحج، فأفعال الحج كلها تقع في ذي الحجة.
ـ كما يشتمل ذو الحجة على الليالي العشر التي أقسم الله بها، وتسمى عشر ذي الحجة.
ـ يوم عرفة، وهو أفضل أيام العشر، ويشرع لغير الحاج صيامه.
ـ كما تشتمل هذه العشر على عيد الأضحى، ويشرع فيه الأضحية.
ـ يشرع صيام شهر الله المحرم، فقد أخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم).

* إمام وخطيب جامع محمد الأمين