”.. كما استخدمت روسيا "القوة العسكرية التأديبية" مع جورجيا، وذلك بهدف إبلاغها رسالة مفادها: أن الغرب لن يقف حائلا دون أهدافنا المستقبلية الرامية لاستعادة المكانة الروسية ولو كان ذلك بفرض القوة، فقد استخدمت وسائل ورسائل سياسية براجماتية أخرى يمكن أن تفعل في بداية الأمر مع بقية الدول القوقازية”ــــــــــــــــ(إن روسيا بدون أوكرانيا لا تستطيع ان تصبح امبراطورية أوروبية) هذه العبارة التي طالما رددها الكثير من المراقبين والمحللين والمختصين في الشأن الروسي، والتي تختصر كثيرا دوافع وردة الفعل الروسية القوية تجاه الصراع الدائر اليوم حول أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وهو ما يؤكده المفكر الاستراتيجي ومستشار الأمن القومي السابق لدى الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، زبجنيو بريجينسكي بقوله: ان انبثاق أوكرانيا المستقلة كان أحد أهم التطورات الجيوبوليتيكية التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي عد كذلك في وقتها من أهم التحولات الجيوبوليتيكية الأوروبية، لا سيما في مركز أوروبا.وبالعودة إلى العام 2008م، وتحديدا أثناء الهجوم الجورجي على أوسيتيا الجنوبية، الجمهورية الانفصالية الموالية للروس اذكر أننا كتبنا عددا من المقالات والدراسات التحليلية التي يمكن الرجوع إليها اليوم للتعرف على وجهة نظرنا الاستشرافية في تلك الفترة إلى مستقبل السياسة الخارجية الروسية، وتوقعاتنا إلى ما يمكن ان تكون عليه روسيا خلال العقد الثاني من القرن 21، والتي كان من أبرز واهم نتائجها التحليلية النقاط التالية:(1) ان المتتبع للتحولات والمتغيرات السياسية والاقتصادية والعسكرية على وجه الخصوص، والتي عاشتها روسيا خلال الفترة من العام 2004 م ـ 2007 م من جهة - الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين -، يستشعر كثيرا أنها كانت خطوات محسوبة بدقة نحو استعادة ما كانت عليه الإمبراطورية الروسية قبل انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وهي الخطوة التي أطلقنا عليها حينها تسمية "خطوة استعادة الثقة" وبناء أركان الدولة المنهارة في الداخل، حيث يبقى أمام هذه الإمبراطورية كخطوة ثانية رئيسية تهدف لإكمال مسيرتها ومكانتها التاريخية، هي خطوة "لملمة ما يمكن استعادته من الأجزاء المبعثرة من الجسد السوفيتي السابق او البيت الروسي الإمبراطوري القديم " ـ أي ـ استعادة الدويلات التي انفصلت عنها واستقلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق بطريقة أو بأخرى، والتي تشكل لها ارقا كبيرا وتهديدا لا يستهان به، وخصوصا كونها تحاول الدخول إلى المنظومة السياسية والعسكرية الغربية.إلا أن إشكالية وخطورة المرحلة الثانية تكمن في كونها خطوة رئيسية وملزمة للحكومة الروسية ـ أي لا بد منها ـ لإكمال مسيرة استعادة أطراف البيت الروسي المنهار بفعل انهيار الاتحاد السوفيتي، في ظل رفض بعض تلك الدول الانفصالية هذه الفكرة بشكل قطعي، وتوجهها نحو الاستقلالية الذاتية الكاملة، وبمساعدة من الغرب والولايات المتحدة الاميركية الطامحة في وجود أقدام لها في هذه البقعة الحساسة والمهمة من العالم، وهنا تأتي الإشكالية الثانية التي ستشكل الخطورة على التوجهات الروسية ـ أي في إصرار الغرب على منع روسيا من ـ تنفيذ هذه المخططات الرامية إلى استعادة التاريخ الروسي في هذه الدويلات الانفصالية كجورجيا وأوكرانيا على سبيل المثال، ودعم وتشجيع هذه الأخيرة على الاتجاه غربا.وكما استخدمت روسيا "القوة العسكرية التأديبية" مع جورجيا، وذلك بهدف إبلاغها رسالة مفادها: أن الغرب لن يقف حائلا دون أهدافنا المستقبلية الرامية لاستعادة المكانة الروسية ولو كان ذلك بفرض القوة، فقد استخدمت وسائل ورسائل سياسية براجماتية أخرى يمكن أن تفعل في بداية الأمر مع بقية الدول القوقازية، منها محاولة تقسيم الرأي العام الداخلي في تلك الدويلات بهدف تغليب المنحازين لروسيا ضد الغرب والولايات المتحدة الاميركية، واستغلال النزاعات العرقية والحدودية لإسقاط الأنظمة الحاكمة المعارضة لوجهة النظر الروسية، بهدف بقاء تلك الدول الانفصالية تحت العباءة الروسية وبعيدا عن الفلك الاميركي على اقل تقدير خلال المرحلة القادمة، وهو ما شاهدنا حدوثه خلال الأيام الماضية في أوكرانيا على سبيل المثال لا الحصر وذلك من خلال استغلال هشاشة السلام القائم في أوكرانيا بين القوى الموالية لروسيا وتلك المناصرة للاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى العواطف المشبوبة المتعلقة بروسيا في جمهورية أوكرانيا، والتي أدت في نهاية المطاف الى انهيار الائتلاف الحاكم بأوكرانيا وتهديد الرئيس الأوكراني بحل البرلمان – انظر مقالنا : سنوات الحسم الروسي.(2) ان حرب القوقاز وان هدأت قليلا، بإعلان الرئيس الروسي الانسحاب غير الكامل لقواته من جورجيا، إلا أنها لم تنته فعليا بعد، وبتصوري الشخصي فإنها لن تنتهي أبدا، فهي مجرد معركة في حرب القرن بين النسر الاميركي والدب الروسي، كذلك فإن امتدادات هذه الحرب وما خلفته وراءها من انعكاسات سلبية، على عدد من الجوانب في العلاقة بين روسيا وأميركا من جهة، وروسيا وأوروبا من جهة أخرى، ستؤثر في تطور مراحل الصراع وسرعته خلال السنوات القليلة القادمة، مما ينبأ بتصعيد خطير بين الإمبراطوريتين المتنافستين، وشرخ اكبر في العلاقات الدولية، وهذا يعني بكلمات أخرى، أن حرب أوسيتيا الجنوبية “ليست عبثاً لا طائل تحته”، كما قالت “فايننشيال تايمز”، بل هي في الواقع شجرة تختفي وراءها غابة كاملة من مشاريع الحروب والمجابهات.. وبالطبع المؤامرات المستقبلية المخيفة، وهو ما سيتأكد للعالم قبل انقضاء العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ـ مقالنا : القوقاز ,,, بيدق في لعبة الهيمنة العالمية.(3) ما زالت روسيا تبعث رسائل قوية ومباشرة إلى العالم بشكل عام، والولايات المتحدة الاميركية وأوروبا على وجه الخصوص من خلال تدخلها في هذا الصراع ـ طبعا نتحدث عن التدخل الروسي في أوكرانيا لصالح أوسيتيا الجنوبية في العام 2008م ـ ولكن هذه المرة ليست بالرسائل الورقية، بل هي رسائل روسية سياسية وعسكرية واقتصادية وبالبريد المستعجل، مفادها ان روسيا اليوم ليست هي روسيا الأمس، وان العالم لا بد ان يحسب لها ألف حساب منذ هذه اللحظة، وأنها لن تقبل بأن تحشر في الزاوية الجيواستراتيجية او الجيوبوليتيكية الدولية بأي شكل من الأشكال، وان حدث ذلك يوما ومن أي كان، فإن ذلك سيعني ردا قويا ومباشرا منها على ذلك التدخل والتهميش والتقزيم.وهو ما نبه إليه كل من هنري كيسنجر وجورج شولتز، وزيرا الخارجية الأميركيين الأسبق في ذلك الوقت على صفحات الرأي بجريدة واشنطن بوست بقولهما : يجب ألا " تقوم الولايات المتحدة الاميركية بعزل روسيا " أو جرها إلى " المواجهة "، وهي حقيقة لا بد ان تدركها الولايات المتحدة الاميركية وبقية دول العالم المعنية كأوربا مثلا، وإلا فإن النتيجة بالطبع لن تكون مقبولة للعالم عموما، والولايات المتحدة الاميركية بوجه خاص، فهناك في روسيا تحديدا من ينتظر أي ثغرة لإشعال المواجهة والصدام بين الدولتين النوويتين، وتحديدا المتشددين الروس المؤيدين لفكرة القوة العظمى، والذين طالما رفعوا أصواتهم وهم ينشدون أناشيدهم القديمة والمتعلقة بعدم الجدوى من التعاون مع الولايات المتحدة الاميركية، والتي وصفوها في أكثر من موقع ببائعة الهواء ـ مقالنا: رسائل روسية ولكن ليست من ورق.إذا فردود فعل وتصرفات روسيا بوتين اليوم حيال أوكرانيا وشبه جزيرة القرم لم تكن بالخطوة المفاجأة او المستبعدة أبدا، فبوتين وبطريقة أخرى يسعى لإعادة بناء أنقاض إمبراطورية منهارة من جهة ويقف في محاولات الإمبراطورية الاميركية للتوغل في البيت الروسي القديم من جهة أخرى، ولا نتصور ان يتراجع بوتين عن توجهه هذا لا اليوم ولا في المستقبل، بل ونتصور انه سيقف سواء بالقوة العسكرية او السياسية في مواجهة كل دول الاتحاد السوفيتي السابق والتي تحاول الاندماج مع أوروبا او وضع الجلباب الاميركي ـ الأوروبي عليها.