في معظم اللغات ظواهر مألوفة تكاد تكون عامة ، مما يجعلها محلّ بحث ومدارسة عند اللغويين لإيضاح ما يكتنفها من الغموض والإبهام ، من هذه الظواهر ما يتصل بقضية التذكير والتأنيث في اللغة، ففي الدراسات الحديثة في هذا الميدان تحقيقات تشير إلى أن معظم اللغات السامية ( التي منها العربية ) كانت تفرّق بين المذكر والمؤنث لا بعلامة مميّزة لكل منهما كما هو الأمر في العربية اليوم ، إنما بكلمة للمذكر ، وكلمة أخرى من مادة ثانية للمؤنث ، نحو قولهم حصان للمذكر مقابل فرس لأنثاه ، وغلام للمذكر مقابل جارية للمؤنث ، و جدي مقابل عنز ، وأب في مقابل أم ... وهكذا ..ولكن الإنسان بتقدم الزمن خاف – فيما يبدو – أن يكثر عليه الكلام ويطول الأمر فرأى أن يختصر بالاتيان بعلامة يفرق بها بين المذكر والمؤنث كما هو الأمر في العربية حاليا. ومثل هذا التقسيم القديم يلحظ في كثير من اللغات الحية التي ميزت أيضاً المذكر من المؤنث بعلامات ، بل في معظمها ، وإذا كانت بعض اللغات قد أفردت جانباً من قواعدها لِما لم يصنّف في أحد فرعي التذكير و التأنيث وسمّته بالمحايد ، فإن العربية قد استغنت عن ذلك ، واكتفت بلفظة ( خنثى ) لِما لا يُعد في أحدهما ، ثم وزّعت هذا القسم الثالث أي المحايد أو الخنثى على فرعيّ المذكر والمؤنث. وعندما لم يجد علماء العربية قرينة مقنعة أمام العقل أو مستنداً تعين به الشواهد اللغوية المحفوظة لوضع بعض الأسماء في التذكير أو التأنيث عند ذاك حلّوا الخلاف بأن عاملوا الاسم معاملة المذكر والمؤنث جميعاً ؛ حسماً للنقاش والجدل، وحرصاً على أحكام القياس والسماع ، من مثل ذلك لفظة (الأنعام) ، فقد جاءت مذكّرة ومؤنّثة ، حيث وردت مذكّرة في سورة النحل الآية (66) وهو قوله تعالى : " وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ " ، في حين وردت مؤنّثة في سورة المؤمنون في الآية (21) وهو قوله تعالى : " وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ " ... ومثلها لفظة (السوق) التي يمكن أن نقول في استخدامها : هذه السُّوق ، وكذلك (العاتق) التي تعني موضع الرداء من المنكب فهي تؤنّث وتذكّر.. ومما جاء في كلامهم مذكراً ومؤنثاً أيضاً: السلاح ، والإبِط ، والعنق ، والقفا ، والبعير ، والفرس ، والخِرْنِق أي ولد الأرنب ، والتأنيث في هذه أكثر ، ثم الصاع التي يكال بها ، أو به . أما ما جاء مؤنثاً ويجري على ألسنة بعض الناس بالتذكير أحياناً فمنه : النحل ، لقوله تعالى : " وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ "وإن قال بعضهم : وقد يجوز فيها التذكير. ومن ذلك الكفّ ، والـمَتن ، والرِّجل ، والغنم، والعقرب ، والعُقاب ، والغول ، والقِدْر ، والطّست ، والمعز ، والعَنَاق وهي الأنثى من المعز ، والضَّرَب وهي العَسل الأَبيض الغليظ ، والقَلِيب أي البئر ، وكذلك المنجنيق والسراويل ، وغنيٌّ عن البيان أن هاتين اللفظتين لم تصنّفا في التأنيث استناداً إلى علل لغوية ؛ لأنهما مأخوذتان من غير العربية ، السراويل دخيلة من الفارسية ، والمنجنيق من اليونانية ، إنما صنّفتا مع المؤنث بعد التعريب ووفق ما لاءم طبيعة العربية ونطق العرب لأصواتهما واستخدامهم لهما. د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة [email protected]