كانت المرأة العربية على قدر طيب من البصر بمسالك العربية وتذوق فنون القول فيها ، تجاري في ذلك أهل اللغة والأدب البارعين من الرجال في هذا المجال بل تتفوّق عليهم أحياناً بعباراتها المشرقة ، ولغتها الرصينة الغنية ، وحسن سياقتها لما يعتلج في صدرها من الفكر والصور ، ولنا في التراث من مآثرها النقدية ما يدعو إلى التأمل والإعجاب والثناء ، وينمّ عن مقدرة فائقة في التعليل حين تدعو الحاجة ويتطلّب المقام أو الموقف ، ومن أمثلة تلك البلاغات اللغوية قول إحداهن حين عاتبها زوجها لعدم ستر وجهها من أحد ، قالت : " إن الله تبارك وتعالى وسمني بمَيْسَم جمال أحببت أن يراه الناس ، ويعرفوا فضلي عليهم فما كنت لأستره ، والله ما فيَّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد ".
وبهذه الكلمات الموجزة الموحية أفصحت عن خصلة الإيمان في نفسها ، وعن شكرها لنعمة الخالق على ما وهبها ، وعن اعتدادها بنفسها ، ومعرفتها بمكانتها بين الناس ، وبراعتها اللغوية في التفريق بين الشيء ونقيضه بحرف واحد ، إذ الوَسْم والـمَيْسم والوسامة ألفاظ تدل على الجمال وحسن الوجه ، فالوسيم : الحسن الوجه ، بينما الوَصْم والوَصْمة : العيب والعار.
ويروى عن سكينة بنت الحسين أنها قالت لراوية الشاعر الأحوص ذات يوم : أليس صاحبك الذي يقول :
مِنْ عَاشِقَيْنِ تَوَاعَدَا وتَرَاسَلا ليلاً إذا نـجمُ الثُّـريّـا حَلَّقَا
باتا بـِأَنْـعَـمِ ليلةٍ وأَلَذَّهَـا حتى إذا وَضَحَ الصَّباحُ تَفَرَّقا
قال : نعم ، فقالت : قبَّحه الله ، وقبّح شعره ، ألا قال : تعانقا؟
فتأمّل كيف أدرات المعنى ووجّهت سفينة القول بتغيير عبارة واحدة.
وشبيه بهذا المسلك ما كان منها مع راوية الشاعر المشهور جرير حين سألته عن قوله ، أي قول جرير:
طَـرَقَـتْـكَ صَـائِدَةُ الـقـلُوبِ وَلَـيـس ذا وَقْـتَ الزّيَارَةِ فارْجِعي بـسَلامِ
قال : نعم ، فقالت : وأي ساعة أحلى للزيارة من الطروق؟ - أي الزيارة ليلاً – قبّح الله صاحبك وقبّح شعره ، أفلا أخذ بيدها ، ورحّب بها وقال لها : فادخلي بسلام.
ألست ترى أن حس المرأة الذواقة لمواطن الإجادة والإحسان يفصح أيضاً عن أُلفة اللغة وبراعة استخدامها؟ وأن الملكة الأدبية واللغوية المتماسكة تبيح لامرأة واثقة من مقدرتها في هذا الميدان أن تتصدى بالنقد والتعديل لشعر شاعرين كبيرين كالأحوص وجرير؟!
ومما يستدلّ بها على بلاغة النساء هذه الرواية إذ خطب عمرو بن حجر ملك كندة أم إياس بنت عوف بن علم الشيباني، ولما حان زفافها إليه، خلت بها أمها بنت الحارث، فأوصتها وصية تبين فيها أسس الحياة الزوجية السعيدة، وما يجب عليها لزوجها، فقالت: أي بنيّة إن الوصية لو تركت لفضل أدب لتركت ذلك لك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها، وشدة حاجتهما إليها كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال.
أي بنيّة: إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلَّفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيباً ومليكاً، فكوني له أمَةً يكن لك عبداً وشيكاً، واحفظي له خصالاً عشرا يكن لك ذخراً:
أما الأولى والثانية: فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع والطاعة.
أما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على القبيح، ولا يشم منك إلا أطيب الريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن غرائز الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
أما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء (الرعاية) على حشمه (خدمه) وعياله، وملاك الأمر في المال: حسن التقدير، وفي العيال: حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمراً، ولا تفشين له سراً، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره وإن أفشيت سره لم تأمني غدره، ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مهتماً، والكآبة بين يديه إن كان فرحاً.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]