.. ونلاحظ أن كلمة:(الناس) قد تكررت خمس مرات، وحرفُ السين تكرر هو الآخر عشرَ مراتٍ، والسورة كلُّها يشيع فيها حرفُ السين، فترسم لنا ـ من خلاله ـ صورةً حقيقيةً لِمَا يفعله الشيطانُ مع بني الإنسان، حتى يوقعَهم في حبائله ، فيُغضِبوا الرحمنَ، بأعمالٍ تخدشُ الإيمان، وتسحبُ عن المؤمن وصف الإحسان، من خلال أسلوبه في تزيين المعصية للإنسان، وتَحْلِيَتِها للعاصي، وكذلك كأنه ـ كما سبق ـ صوتُ الأداة التي تكون في يد القانية، أو الراقصة التي تعبثُ ـ من خلالها ـ بقلوبِ الرجال، فتأخذهم بعيدًا عن ربهم، حتى يفترسَهم العصيانُ، وقائدُه الشيطانُ.
إن أصل الوسوسة هي الصوتُ الخفيُّ، يقال له:(وسوسة)، ولهذا يقال:(وسوسة الحلي)، وهو الصوت الذي يصدر خفيضًا هادئًا، فيقال له:(وسواس)، وهو المقصود من قوله تعالى:(مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ، الْخَنَّاسِ)، حيث فسروا هنا الوسواس الخناس بالشيطان، كما يقول ابن جرير بصرف النظر عما سيأتي من قوله:(مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)، فترى السين وتكررها قد قامت بتلك الدلالة، ونهضت لهذا المعنى.
ـ النموذج الثالث:(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا) (مريم ـ 98).
حيث تتحدث الآية هنا عن أخذ الله السابقين من الكافرين، وأنه قد نالهم انتقامُ اللهِ على مر السنين، وأن الناس لا يستفيدون من عواقبِ الظالمين، ولا يدرسون مآلاتِ المجرمين، ولا يَعُونَ درس السماء الذي يقتصُّ من الفاجرين، ولا يترك الكافرين، بل يعطي في كتابه الكريم نماذجَ لمن ظلم، وبغى، وطغا، فأخذه الله نكالَ الآخرة والأولى، ومن أطاع، وآمن، والتزم، جعله سيدًا في قومه، ممكَّنًا في أرضه، مُنَعَّمًا في خير الله، ونعمه، أما هؤلاء فقد وصف أخذهم أخذًا شديدًا بأن من عاينهم، وعاش في زمانهم، لم يشعروا بأحد منهم، ولم يجدوا حسًّا لأحد، ولام يعرفوا خبرًا عنهم، فقد مضوا، وانتهوا، ولا حسَّ لهم ولا ذكرَ، فأسلوبُ الاستفهام:(هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) هو نفيٌ مؤكَّدٌ بـ(من) الجارة الصلة، أيْ: لا أجد، ولا أحس منهم أحدًا مطلقًا، فقد أبِيرُوا، وأُبِيدُوا عن بكرة أبيهم، ودُمِّروا تدميرًا، وفُتِّتُوا تفتيتًا، فلا أحد مهم بقي، ولا إنسان منهم نجا، واستعمال الفعل:(أحس) بمعنى شعر، وأدرك بإحدى حواسه، وعرف، فالتساؤل هنا هو التساؤل الذي يدخل في إطار مَنْ يسأل عالمًا بالجواب:(هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ)، وهو كناية عن النفي القاطع المؤكَّد.
حيث دخل شبه النفي (وهو الاستفهام)، وجاء حرف الجر الصلة (من أحد) داخلا على نكرة، فأفاد العموم، وكأن المعنى:(لا يا ربي، لا أحس منهم أحدًا مطلقًا، ولا أدركه بأيِّ حاسة من الحواس: لا سمعًا، ولا رؤية، ولا لمسًا، بل نراهم راحوا كلهم ببيوتهم، بأطفالهم، بنسائهم، ورجالهم، وحيواناتهم، وكلِّ شؤونهم، وانتهتْ حقبةٌ من حقب الظالمين إلى الأبد، ولا رجعةَ لهم، وقيل معها من الكون كله:(بُعْدًا للقوم الظالمين)، فالسين هنا حرف همس، لا يسمع، وكأنه يحكي عدم سماع أيِّ صوت من الذين أخذهم الله أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ، ثم عاد، فأكد نهايتهم، وانقضاء زمانهم، واندثار حقبتهم، ونسيان التاريخ لهم، (أو تسمع لهم ركزًا) أي: تسمع لهم صوتًا، واستعمل السين هنا، وفعل السماع:(تسمع) لبيان ذلك، والسمعُ هو حاسة من حواس العلم، والمعرفة، ولكنَّ الجواب يأتي بالنفي، أيْ: لا أسمع لهم يا ربي صوتًا، ولا أرى لهم حركة، وإنما ضاعوا مع الضائعين، ومضوا مع المجرمين لأنهم أغضبوا الله رب العالمين، فانتقَمَ منهم أجمعين، وما أبقى لهم من ذِكْرٍ في الآخرين، وطواهم النسيان، وشملهم الردى، فلا ترى منهم أحدًا، ولا تسمع لهم صوتًا، وكما نقول:(إن السين هنا في الفعلين قد أدَّتْ دلالة كبيرة حيث بيَّنت أن الهمس منهم لا يُوجَد، وأن سماع حرف لم يكن منهم، صمت في صمت، وسكون يتبعه سكون؛ لأن أخذ الله أليم شديد، لا يبقي، ولا يذر، بل ينسي حتى الأثر، ولا يسجل التاريخ لهم من خبر، إلا خبر الظلم، والكفر، والفجور، وأن انتقام الله هو الباقي للخلق؛ ليعطيهم أكبر درس، وأوقع أثر).
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية