أيها المؤمنون.. لقد أكرمنا الله تعالى بواسع إكرامه، وشملنا بعموم فضله، وأنعم علينا بنعم عظيمة لا تُعدُّ ولا تُحصى، ولو حاولنا أن نشكر الله عليها لما استطعنا أنا نوفي شكرها، بل إذا جلسنا ما كتب الله لنا من حياة وأعمار نشكر الله علة نعمة واحدة من موفور نعمه لما أوفيناه سبحانه حقه.
ومن تلك النعم نعمة الأولاد، الذين هم من أجل النعم على الإنسان، وإذا أراد أن يعلم مدى عظمة هذه النعمة فليجلس إلى من لم يهبه الله تعالى ولد ليعلم ما مدى حرمان ذلك الرجل من تلك النعمة، فيدرك حينها أنه مغمور في نعمة الولد التي ينبغي عليه أن يحافظ على تلك النعمة وينميها وأن لا يضيعها، وفي الحديث عن (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (صحيح البخاري 2/ 5 برقم:893).
فالمحافظة على النشء من المفروضات علينا، قد لا تقل عما افترضه علينا ربنا من صلوات وصيام، وقد جاء في الحديث عن (عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ) (السنن الكبرى للنسائي (8/ 268).
ومن هنا وجب علينا أن نتعهد أولادنا حتى لا تتلقفهم الأفكار الهدامة والاعتقادات الضالة، وتهوي بهم المخاطر الفطرية الفاسدة في مكان سحيق، ولنربي فيهم الحضور الذهني في المجالس ليتعلموا كيفية الحوار، فإذا ما حاوره أحد تجاوب معه، وعكس ذلك نلاحظه جميعًا عندما نرى بعض الأولاد إذا تحث إليه أحد احمر وجهه واعتراه الخوف والقلق، والأكثر خطرًا من ذلك أنه يسكت ولا يجيب وإذا أجاب كانت إجابته ركيكة وليست مقنعة، كل ذلك من آثار وضعه في حافظة الهاتف وسجنه في سجن السكوت، ونفيه إلى غابات الإنترنت، وربطه بسلاسل الفيديوهات في وسائل التواصل، وعدم المحاورة المباشرة، وخاصة وأكرر وخاصة من الوالدين، فقد شغلهم العمل وأحاطت بهم مشاغل الدينا، فلا وقت عند البعض أن يبار أولاده، وهذا ما داعاني أن أذكر نفسي وإياكم بهذه التذكرة المهمة في عالم أولادنا اليوم، حتى ندرك السفينة قبل الغرق، والنبات قبل أن يموت في باكورة نتاجه، وتأملوا معي أيها الأحبة الرعيل الأول من الصحبة الكرام كيف كانوا يفتحون المجال لأولادهم حتى يكونوا في سن الطفولة رجالًا يعتمد عليهم، والأمثلة كثيرة على ذلك، فمثلًا عندما دخل سيدنا علي بن أبي طالب في الإسلام كان صغيرا جدا ومع ذلك استطاع أن يتخذ قرارًا حاسمًا كهذا، ففي (السير والمغازي، لابن إسحاق، ص: 137) عن مجاهد، قال:(أسلم علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين، دخل علي بن أبي طالب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزوجته خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ فوجدهما يصليان، فقال علي: ما هذا يا محمد؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده، وإلى عبادته، وكفر باللات والعزى، فقال له علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرًا حتى أحدث أبا طالب، فكره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا علي إذا لم تسلم فاكتم، فمكث علي تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غاديًا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى جاءه فقال: ما عرضت علي يا محمد؟ فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: تشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد، ففعل علي وأسلم، ومكث علي يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهر به، وأسلم زيد بن حارثة فمكث قريبًا من شهر يختلف علي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان مما أنعم الله به على علي أنه كان في حجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل الإسلام.. وهنا لنا وقفة أخرى نكمل ما تبقى إن شاء الله.
محمود عدلي الشريف