تأتي أهميَّة العِلم والتَّاريخ والفِكر والفلسفة في التَّعبير عن حضارات الشعوب، إذ إنَّه لا يُمكِن قراءة الصِّراعات الدَّائرة وأحداثها قراءة صحيحة، بَيْنَما نضع عَلَيْها وجوهًا متعدِّدة بحجَّة التقدُّم وحُريَّة التَّعبير، والسَّماح بتفعيل منظومة البقاء للأقوى، ونُلبس تبريراتنا أقنعة تُريحنا من المسؤوليَّة الإنسانيَّة، ثمَّ نعزل تفاعُلَنا في الحجر الصحِّي بعيدًا عن التَّفاعل الطبيعي مع الحياة بعد أن اشتدَّ الطَّرق والغليان في بركان يموج فوقه العالَم من الصِّراعات، بَيْنَ الغرب تارة، والشَّرق تارةً أخرى، بَيْنَ الحضارات باختلاف تنوُّعها والصِّراعات القائمة ودقّ طبول الحرب لإشعالها أكثر وأكثر، وهو ما يوضِّح صَمْت العالَم المُريب أمام المجازر الَّتي تُرتكَب من الكيان المحتلِّ، الكيان العنصري، الكيان الصهيوني، الهمجي، ضدَّ الشَّعب الفلسطيني، والَّتي تتصاعد أعداد ضحاياه الَّذين يرتقون للشَّهادة كُلَّ يوم بأعدادٍ كبيرة فاقت الأربعين ألفَ شهيدٍ مَدَني لا ذنْبَ لَهُم إلَّا أنَّهم وقعوا أمام عنصريَّة كيان ليس له حضارة أو ثقافة إلَّا ثقافة الموت والقتل، والعالَم والمنظَّمات الدّوليَّة تقف صامتةً أمام هذه المجازر اللاإنسانيَّة والهمجيَّة والَّتي تتمُّ طيلة عشرة أشْهُر منذُ بداية طوفان الأقصى في السَّابع من أكتوبر الماضي، ولتمييز الأحداث الَّتي مرَّت أمامنا نجد أنَّ صراع الحضارات يُسيطر على كُلِّ تلك المشاهد، ولا يوجد ما ينفيها أو يجملها، بل هي شهادة للتَّاريخ أنَّ هناك أقوامًا لا تعترف إلَّا بوجودها ولا تعترف بالآخر، وهي في سبيل ذلك تدمِّر شعوب وثقافات وحضارات.
«النتنياهو» في الكونجرس!!
لا ننكر أنَّ الشَّباب الأميركي يقف ضدَّ قاتلٍ دمويٍّ لكيانٍ مغتصِب، وشاهدنا ذلك في مظاهرات الجامعات، ونَفْس الموقف قد تكُونُ اتَّبعته رئيسة مجلس الشيوخ الأميركي كاملا هاريس الَّتي لم تحضر اللقاء، إلَّا أنَّ أكثر الأشياء سوداويَّة هو هؤلاء النوَّاب الَّذين يعلمون جيِّدًا أنَّ «النتنياهو» يده ملوَّثة بالدِّماء ومُدان دوليًّا على المجازر الَّتي ارتكبها، في مشهدِ ادِّعاء الذُّباب أنَّ هذه الجِيَف حلوى، ومشهد الغافلين الَّذين فقَدوا عيونهم وأنوفهم ويصدِّقون ذلك، فكثرت تصفيقات الأيدي المؤيِّدة لأكاذيبه ممَّا يعني أنَّ ثقافة الدَّم واختلاف الحضارات في أسوأ صوَرها تمثَّلت في هذا الجمعِ من التَّصفيق. إنَّ ما حدَث في الكونجرس مع «النتنياهو» يُعبِّر عن المأساة مع الملهاة، والجديَّة مع السّخرية، والرَّصانة مع المُجون.
إهانة المسيح في موطن معتنقي المسيحيَّة!!
صمَتَ الغرب إزاء التطاوُل على الرسومات والأفلام المُسيئة لأشرفِ خلقِ الله نبيِّ الإسلام محمد صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم، ونتيجة لهذا الصَّمت والموافقة على هذه الإهانات بحجَّة حُريَّة التَّعبير، دارت عَلَيْهم الدَّائرة وأُهينَ في بلادهم المسيح عَلَيْه السَّلام، وهذا المشهد الروائي الَّذي تمَّ عرضُه خلال افتتاح أولمبياد فرنسا والَّذي يهينُ السَّيد المسيح عَلَيْه السَّلام وإعلاء حقوق المثليَّة على حساب الدِّيانة المسيحيَّة ورسولها، هو نموذج فاضحٌ لحضارةٍ فاضحة، تعُودُ بنا إلى أزمنة أولى من عمر البَشَريَّة قَبل أن تعرفَ التحضُّر وتتعلَّمَ الفنون والرياضة والملبس والأكل والعيش وأساسيَّات الحياة وقوانينها، فجاء إِلَيْنا اليوم مَنْ يُعِيدُنا إلى عصور الظَّلام والجاهليَّة الَّتي لا تفرِّق بَيْنَ الصَّحيح والخطأ، بَيْنَ المُباح وغير المُباح، بَيْنَ الأخلاق وعدم الأخلاق، إنَّها حضارة الغرب الَّتي تتَّضح كُلَّ يوم أنَّها حضارة بلا هُوِيَّة.
الانتخابات الأميركيَّة
موقف بايدن من الحرب على غزَّة ودعمه غير المحدود للكيان المحتلِّ تسبَّب في تراجع المؤيِّدين له وللحزبِ الديمقراطي الَّذي شعَر بالخطر من فقدانه المنافسة على كرسي الرئاسة فسارعوا إلى تنْحِيَتِه وترشيح نائبته كاملا هاريس، الَّتي فازت في أول استطلاعات للرأي على المُرشَّح الجمهوري والرئيس السَّابق ترامب الَّتي جاءت لصالحِها بالحصول على (44%) فيما حصل ترامب على (42%) في الاستطلاع الَّذي أجرته «رويترز ايسوس»، وهذا ما طمأنَ الديمقراطيِّين على نتيجة الانتخابات، وأنَّ هاريس يُمكِنها الوقوف أمام ترامب القوي، وقد وضح ذلك في جمعها (80) مليون دولار في خلال (24) ساعة من المتبرِّعين بعد أن كانوا أعلنوا وقْفَ التبرُّع خلال الأيَّام الأخيرة من حملة بايدن ممَّا أوقع الديمقراطيِّين حينها في مرحلة من الإحباط في إمكانيَّة الفوز على ترامب، ثمَّ جاءت كاملا لِتُعيدَ إِلَيْهم الأمل من جديد في جذْبِ أصوات المتأرجحين والأقليَّات والَّتي قد تُسهم بقدرٍ كبير في ترجيح كفَّة الفائز في الانتخابات الأميركيَّة الَّتي ستجرى نوفمبر القادم.
إنَّ العالَم يشهد للمرَّة الأولى في تاريخه هذا التَّرابط في الأحداث الَّتي تدلُّ دلالة واضحة على الصِّراع الدَّائر بَيْنَ الحضارات بأشكالٍ مختلفة وأدوات أكثر اختلافًا، حتَّى أصبحنا ضحيَّة لهذه الحضارة الَّتي تنبذ الحالمين على هوامش المدن، فابتلعت الحقيقة حتَّى تحوَّل كُلُّ شيء إلى ضباب.
جودة مرسي
من أسرة تحرير «الوطن »