في موسم إفصاح الشَّركات عن أدائها المالي للرُّبع الثَّاني ونِصفِ العام، وإعلان توقُّعاتها لبقيَّة العام الحالي، تكثر التَّحليلات والسيناريوهات. لا تقتصر أهميَّة ذلك على المتعاملين في أسواق الأسهم، بل إنَّها تُعَدُّ مؤشِّرا على توَجُّه الاقتصاد بشكلٍ عامٍّ، وأيضًا تبعات ذلك سياسيًّا على مستوى العالَم كُلِّه. تظلُّ شركات التكنولوجيا بؤرة الاهتمام للمتابعين ومراكز البحثِ والتَّحليلِ والدِّراسات، أوَّلًا لأنَّها الأكثر تطوُّرًا مع تطوُّر التكنولوجيا؛ وبالتَّالي الأكثر جذْبًا للاستثمارات من الأفراد والمؤسَّسات وحتَّى الدوَل. وثانيًا لأنَّها الأكثر حساسيَّة لتحرُّك أسعار الفائدة، ومع قرب البدء في التَّيسير النَّقدي (خفض أسعار الفائدة) في الاقتصادات الكبرى تصبح شركات التكنولوجيا وأسعار أسْهُمِها مؤشِّرًا مُهِمًّا. ومنذُ نهاية القرن الماضي، الَّذي شهد تكوُّن «فقاعة» شركات الإنترنت (المعروفة بفقاعة دوت كوم)، يشهد قِطاع التكنولوجيا فورات أصبحت تنتهي بوتيرة أسرع. ليس بالضرورة بانفجار الفقاعة كما حدَثَ مع شركات الإنترنت بداية هذا القرن.
الموجة الحاليَّة من تطوُّرات التكنولوجيا هي الذَّكاء الاصطناعي، الَّذي يجتذب استثمارات بتريليون ونصف التريليون دولار. وكما أعلن رئيس شركة ألفابيت المالكة لمحرِّك البحثِ الأكبر (جوجل) وغيره من التَّطبيقات مع إفصاح الشّركة المالي قَبل أيَّام فإنَّ الاستثمار في الذَّكاء الاصطناعي مُرشَّح للاستمرار بقوَّة على الأقل حتَّى العام القادم ورُبَّما الَّذي بعده. فالشَّركات الكبرى، الَّتي تسيطر على سُوق الحوسبة السحابيَّة (كلاود كمبيوتنج) مِثل أمازون ومايكروسوفت وغيرها مستمرَّة في إقامة مراكز بيانات الذَّكاء الاصطناعي. تستفيد منذُ ذلك بالدَّرجة الأولى شركات إنتاج الرَّقائق الإلكترونيَّة للذَّكاء الاصطناعي، وفي مُقدِّمتها شركة إن فيديا. لكن هناك مئات الشَّركات المستفيدة أيضًا من شركات إنتاج حواسيب (كمبيوترات) خوادم مراكز البيانات إلى شركات الأجهزة المعاونة والكابلات المتخصِّصة وحتَّى شركات الطَّاقة والتَّبريد. فمراكز البيانات للذَّكاء الاصطناعي تعمل بطريقةٍ مشابِهة لمواقع تعدين العملات المشفَّرة: حواسيب (كمبيوترات) هائلة القدرة واستهلاك طاقة كبير جدًّا للأجهزة، بالإضافة إلى عمليَّات تبريدها. وبالطَّبع تُشكِّل هذه العمليَّات ضغطًا رهيبًا على شبكات الكهرباء، حتَّى على الرّغم من أنَّ تلك المراكز قد يكُونُ لدَيْها مصادر توليد كهرباء، بالإضافة إلى ارتباطها بالشَّبكة العامَّة.
تختلف فَوْرة الذَّكاء الاصطناعي عن فَوْرات التكنولوجيا الأخرى في أنَّها تعتمد على شبكة واسعة من سلاسل التَّوريد، ما يعني ارتباطها بشركات مختلفة من صناعات إلكترونيَّة إلى بناء وتشييد إلى طاقة كهربائيَّة. لذا نجد أنَّ حجم ونطاق الاستثمارات فيها كبير جدًّا. وطبعًا الرِّهان من المستثمرين والمُقرِضين، من بنوك وصناديق واستثمارات دوَل حتَّى، هو على أنَّ تلك الفَوْرة مستمرَّة، وأنَّ الطلبَ على الذَّكاء الاصطناعي مستمرٌّ في الزِّيادة. وإذا كان الطَّلب فعلًا يرتفع منذُ إطلاق تطبيق «تشات جي بي تي» قَبل عاميْنِ، إلَّا أنَّ استمراره بتلك القوَّة مرهونٌ بتبنِّي مختلف الصِّناعات وقِطاعات الاقتصاد الأخرى للذَّكاء الاصطناعي في أعمالها ونشاطاتها. وهذا في حدِّ ذاته أمْرٌ غير مضمون تمامًا. أضِف إلى ذلك أنَّ احتياجات الطَّاقة الهائلة لمراكز بيانات الذَّكاء الاصطناعي قد لا يُمكِن تلبيتها في ظلِّ إمكانات توليد الطَّاقة الحاليَّة وفي المستقبل القريب عالَميًّا. فنحنُ نشهد فَوْرة تكنولوجيَّة تُشبِه إلى حدٍّ ما فَوْرة السيَّارات الكهربائيَّة، إذ استثمر العالَم بكثافة فيها وبَنَى المصانع، وطوَّر البطاريَّات، ومدَّ شبكات الشَّحن، ثمَّ لم يلبثْ سُوق تلك السيَّارات أن بدأ يتباطأ وتنخفض المبيعات الَّتي ظنَّ الجميع أنَّها ستستمرُّ في النُّموِّ والزِّيادة وتُحقِّق لَهُمْ عائدًا جيِّدًا على استثماراتهم.
إنْ كانت فَوْرة السيَّارات الكهربائيَّة بدأت تهبط، فهذا لا يعني أنَّ إنتاجها واستهلاكها سيتوقَّف، فما زالت تُباع وتُستخدم. لكنَّ المغالاة في التوقُّعات بأنَّها ستحلُّ تمامًا محلَّ سيَّارات البنزين والدِّيزل في غضون سنوات قليلة أو كثيرة انتهت الآن. خصوصًا وأنَّ كثيرًا من الدوَل بدأت تراجع حتَّى سياساتها لمكافحة التغيُّرات المناخيَّة، فضلًا عن أنَّ السيَّارات الكهربائيَّة في النِّهاية لا تعني الكثير بالنِّسبة لتقليلِ الانبعاثات. فاستهلاكها الكبير من الكهرباء يعني الحاجةَ لزيادةِ توليد الكهرباء الَّتي تأتي حتَّى الآن من محطَّات تعمل بالوقود وتزيد الانبعاثات! أتصوَّر أنَّ هذا هو الحال مع فَوْرة الذَّكاء الاصطناعي الَّتي رُبَّما تكُونُ في قمَّتها الآن، لكنَّها لن تلبثَ أن تهدأَ ورُبَّما يُحبط كثير من المستثمرِين فيها؛ لأنَّها لم تأتِ لَهُم بالعائدات والأرباح الَّتي قدَّروها. فالطَّلب على تطبيقات الذَّكاء الاصطناعي اشتعلَ وبدأَ يخبو إلى حدٍّ ما. ثمَّ إنَّ أنماط الاستهلاك عمومًا لم تَعُدْ مِثل السَّابق في تغيُّرها وصمودها ومدى تشبُّع الأسواق بها. صحيح أنَّ الذَّكاء الاصطناعي، كتطوُّر تكنولوجي، لن ينتهيَ تمامًا، لكنَّه لن يكُونَ بِفَورانه الحالي بعد عام أو عامَيْنِ. إمَّا لتراجعِ الطَّلب من ناحية أو لأيِّ عقبةٍ في سلاسلِ الإمداد المرتبطة به، كما ذَكر تحليل لمجلَّة الايكونوميست في عددها الأخير. وإذا كان تحليل المجلَّة انْصبَّ أساسًا على مصالح المستثمرِين فإنَّ الأمْرَ يتعدَّى ذلك إلى تفاصيل حياتنا اليوميَّة. حتَّى لو زادَ الإقبال على استهلاك الذَّكاء الاصطناعي فإنَّ هناك مَنْ سيظلُّ يستخدم هاتف النَّقال الذَّكي حاليًّا لإجراء المكالمات وإرسال الرسائل النَّصيَّة فقط، غير عابئ بكَمِّ التَّطبيقات الهائل على هاتفِه المرتبط بالإنترنت.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري