الأحد 08 سبتمبر 2024 م - 4 ربيع الأول 1446 هـ
أخبار عاجلة

الإعجاز الصوتي فـي القرآن الكريم «حرف السين ودوره فـي البلاغة القرآنية» «3»

الأربعاء - 24 يوليو 2024 06:06 م
40

أعزائي القراء.. نستكمل سلسلة حلقات موضوع (الاعجاز الصوتي في القرآن الكريم)، ونقول: وعند أهل التجويد: حرف مخرجه من بين طرف اللسان، وفُوَيْق الثنايا العليا، وهو حرف مهموس، رخو، من حروف الصفير، يمكن أن يكون حرفَ مبنى، كالسين في كلمة:(الناس)، أو حرف معنًى، يفيد المستقبل القريب، نحو:(فسيكفيكهمُ الله)، وتكرار الحروف - كما هو معلوم في اللغة - يدل على التكرر، فإذا قلت مثلًا: زلزلة: فأنت تعني حركة مترددة لتلك الزلزلة، وكذا الأفعال:(جلجل، وخلخل، وزعزع)، كلُّ هذا يدل على تكررٍ، وتردُّدٍ في الشيء، فإذا قلنا:(وسوسة) فهذا يدل على أن القضية لم تقع مرة واحدة، ألقى خاطرةً، وانتهى الأمرُ، لا، ليس هذا من صفات الشيطان، إنما هو يعود مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، ولا يَفتُر، ولا ييأس، يكررُ ذلك مرارًا، ويعاوده مع الإنسان تكرارًا، لهذا قيل له: الوَسواس، وهو لا ينتهي معه إلى حد محدود، بل يمتد بلا حدود.

وحرفُ السين - كما هو معهود عنه - لا يكاد يُسمَع، فهو يُنطَقُ بهمس، وهدوء، كأنه يصوِّر الشيطانَ في همسه للإنسان، ومحاولة إلهائه عن التفكير في العاقبة، أو أن السينَ حرفٌ فيه صليلٌ، ووسوسةٌ تُوَغْوِشُ، وتُعَمِّي على الإنسان، وتزيِّن له المعصية، وتُضَبِّبُ له الأمورَ(أي: تجعلها ضبابية غير مدركة، ولا مرئية بوضوح)، بحيث لا تتضح المعصية بين ناظريْه في أثناء ارتكابها، وكأن صوتَ السين يلاحقه، ويُعَمِّي عليه كما هو فعلت (القانية أو الراقصة) بما يفردها من الأدوات التي تحركها في أناملها؛ رقصًا، وإطرابًا لمستمعيها، ورائيها، فتلهيهم عن أنها معصية، وتدخل عليهم بوسوستها، وصوتِ ما في يديها الإلهاءَ عن الطاعة، والانغماسَ في المعصية، تمامًا كما يفعل الشيطان بالإنسان من الوسوسة في صدره، وتزيين المنكر بين عينيه، وارتكابه له دون وازعٍ يردعُ صاحبَه، فكلُّها وسوسةٌ، وجلبةٌ حول العاصي؛ لإلغاء عقله عما هو مقدمٌ عليه من ارتكابِ ما سيرتكبه.

فالسينُ تطالعك من أولِ الآياتِ إلى آخرِ حرفٍ، وصوتٍ فيها، كلُّها تزيينٌ، ووسوسة، وتعمية، وتضليل، وضبابية الرؤية، وصيغة المبالغة في:(الخناس) تَشِي بتردُّده، وعدم كسله، وخَنْسه مرة، وإقدامِهِ مرة، فهو يخنسُ، ثم يعود، دون أن يعلم العاصي به، فإذا استعاذ بالله خَنَسَ الشيطانُ، وإذا سكتَ المرءُ عن الاستعاذة جاء إليه، ووسوس في صدره، والفعل المضارع:(يوسوس) يدل على الاستمرار، والديمومة، فالشيطان لا يملُّ، ولا يكلُّ، ويظل مع الإنسان يعملُ، ويعملُ حتى يهلكَه، ويوقعَه في غضب الله؛ جَرَّاءَ وسوستِهِ، فالوَسواس (بفتح الواو) اسم مصدر، بمعنى اسم الفاعل، أي: المُوَسْوِسُ، فهو الذي يوسوس، ويخنس، ويعود، ويتربَّص الدوائرَ بصدر البشر وسوسة، وتزيينًا لهم:(يوسوس في صدور الناس)، والحرف (في) يدل على تدخله، وانظرافه مع العاصي الذي وسوس إليه، وأخذِهِ بعيدًا عن ربِّه، فالسين، وهو حرف الهمس، قد حقق كل تلك الدلالات الكثيرة، وبيَّن لنا كيف يعملُ الشيطان، وكيف يرسم طريقَهُ في إغواء بني الإنسان، وكيف يتسلل في همسٍ، وصمتٍ، وهدوء ليصلَ إلى صدر الإنسان، ويتسلم أذنيه، وعقله: وسوسةً، وإلهاءً؛ حتى يُوقِعَ المرءَ في المعصية، وبعدها يخنسُ، وينتظر الإنسان لأنْ يضعف ثانيةً، فيأتي إليه، ويعيد الكرة؛ عسى أن يفوز بإلهائه عن ربه، ويجعله يرتكبُ الموبقاتِ في هدوءٍ، وهمس، مُوَسْوِسًا بكلِّ ألوان الوسوسة.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية