السبت 13 ديسمبر 2025 م - 22 جمادى الآخرة 1447 هـ

من طشقند إلى سمرقند .. من أوزبكستان إلى كازاخستان .. شمس الإسلام أشرقت فـي آسيا الوسطى «7ـ7»

من طشقند إلى سمرقند .. من أوزبكستان إلى كازاخستان .. شمس الإسلام أشرقت فـي آسيا الوسطى «7ـ7»
السبت - 20 يوليو 2024 05:00 م

سعود بن علي الحارثي

30


سابعًا: «مدينة المثلث الذهبي».

رجَّحت كفَّة «الماتي»، وتعني «التفاح»، عاصمة «كازاخستان»، القديمة وأكبر وأجمل مُدُنها، والأكثر جذبًا وفتنة، على «خيوة»، أو «خوارزم»، العاصمة السابقة لجمهوريَّة خوارزم السوفيتيَّة، وذلك لعدَّة أسبابٍ مِنْها: أنَّ زيارة «الماتي»، تضيف إلى تطوافنا بلدًا آخر إلى جانب أوزبكستان، قد لا تُمكِّننا الفرص من مشاهدته مستقبلًا. ثانيًا: لتشابُه الآثار والمعالم والمواقع السياحيَّة ـ التاريخيَّة الاسلاميَّة، حدَّ التطابق بَيْنَ المُدُن الأوزبكيَّة، «طشقند ـ سمرقند ـ بخارى، وخيوة»، فاكتفينا بالمُدُن الثلاث. وأخيرًا: لأنَّ موقع «خيوة»، المنعزل والبعيد في أقصى غرب البلاد وما يتطلبه الوصول إِلَيْها من جهد ووقت، حفَّزنا للمَيْلِ إلى زيارة «الماتي»، الَّتي تقع جنوب «كازاخستان»، على الحدود القيرغيزستانيَّة، وشيِّدت على قِمم وسفوح جبال «تيان شان»، ما يمنحها إطلالات بانوراميَّة رائعة على طبيعتها الخلَّابة وحياتها الصاخبة ونُموِّها العمراني المتسارع وأبراجها وبناياتها الشاهقة وأحيائها العصريَّة الَّتي تتلألأ ليلًا بملايين المصابيح الكهربائيَّة تضيء سماء المدينة وفضاءها العامَّ. توصف «الماتي»، بأنَّها «المدينة العملاقة الوحيدة في العالَم»، ويُطلق عَلَيْها «مدينة المثلَّث الذَّهبي»؛ لاحتضانها ثلاثًا من أروع الوجهات السياحيَّة الطبيعيَّة، وهي: «بحيرات كولساي، أي الوادي، الَّتي وُلدت من رحم زلزال قوي ضرب البلاد في 1911م ـ ووادي شارين، ومتنزَّه ألتن إيميل الوطني». ومن أجمل ما قِيل في وصفِ طبيعتها الفاتنة المتنوِّعة: «في الربيع والصَّيف تحتضنك الماتي بالدفء ورائحة أشجار الصنوبر، وفي فصل الشتاء فإنَّ الثلج الأبيض النَّاعم يُغطِّي أشجار شوارعها ممَّا يجعلها تبدو وكأنَّها زينة لأفلام عيد الميلاد». أخذنا من «طشقند»، إلى «الماتي»، بالطائرة حوالي الساعة والنِّصف في أجواء تنعم بالصفاء والهدوء، وإشراقة شمس الظهيرة، وطقس لا تتعدى درجاته الـ(٢٥)، وطيران مستقر مريح لم تتعرض فيه رحلتنا لأيَّة اهتزازات ومطبَّات مزعجة ومُخيفة... مطار «الماتي»، شَبيه بطشقند، هدوء وضعف في الحركة وسرعة في إنهاء الإجراءات. ولا تكفي بضعة أيَّام قليلة لاستطلاع مدينة تحلِّق مختالة بحشدٍ من الكنوز والآثار الحضاريَّة ـ التاريخيَّة، كالمتاحف الغنيَّة بالمحتوى، المتخصِّصة في عرض ثقافة وتاريخ شَعب الكازاخ، والقصور والمساجد والأسواق الكبيرة الَّتي تقدِّم المدينة كواحدة من أجمل مُدُن كازاخستان، ومراكز الفنون والثقافة والأناقة، والاستمتاع بمباهج الطبيعة وفتنتها، ففي «الماتي»، وعلى مشارفها وحدودها الإقليمي توجد البحيرات والجنائن والأرياف الخضراء والجبال الزاهية بالثلوج، والأنهار والجداول المائيَّة ممَّا لا تمتلكه مُدُن أخرى في البذخ والجَمال والتنوُّع الطبيعي الهائل، لذا فإنَّ مكاتب وشركات السياحة تضع الطبيعة كأولويَّة ضِمْن برامجها السياحيَّة المُعدَّة، فكيفنا وقتنا، وضغطنا برنامجنا اليومي، وملأناه بما تستحقُّه هذه المدينة الجميلة من عناء وجهد التطواف والزيارة إلى أقصى ما تمتلكه أجسادنا من قوَّة، وحدَّدنا ما قدرنا أنَّه يستحقُّ الأولويَّة، ويختلف اختلافًا كُليًّا عمَّا شاهدناه من معالم في طشقند وسمرقند وبخارى... كَيْ لا نكررَ المكرَّر. فتناول تطوافنا زيارة كنيسة القديس نيكولاس الأرثوذكسيَّة، الَّتي تأسَّست في ١٩٠٦م، وأخذت اسمها من القديس «نقولا». والجامع المركزي، الَّذي صمَّمه «سُلطان كابييجيتش»، ويتَّسع لأكثر من سبعة آلاف مُصلٍّ، ويبلغ قطر قبَّته الزرقاء الجميلة «٢٠ مترًا وارتفاعها ٤٧ مترًا». ومنطقة «شيمبولاك» الجبليَّة الَّتي تُعَدُّ أكبر منتجع للتزلج في آسيا الوسطى، وتقع على ارتفاع (٢٢٠٠) متر فوق سطح البحر، وتبعد عن الماتي حوالي (٢٥) كيلومترًا، وتتميز بالغابات والأنهار والثلوج الَّتي تزيِّن قِمم الجبال، كما أخذنا جولة مسائيَّة لمشاهدة مبنى الأوبرا «أباي»، الَّتي استلهمت اسم الفيلسوف والشاعر الإصلاحي الأشهر في كازاخستان، من ألهمت أعماله الملايين في آسيا الوسطى، وترجمت مجلة الدوحة في أحَد أعدادها كتابه «آباي.. كتاب الأقوال». بالإضافة إلى مجموعة من المُجمَّعات التجاريَّة والأسواق الشَّعبيَّة، والحدائق والميادين والبرامج الترفيهيَّة المشهورة والجاذبة، كالتلفريك الَّذي يُمكِّن السائح من اكتشاف معالم «الماتي»، فيما عطَّلت ـ أحيانًا وقلَّلت في أحايين أخرى ـ الأمطار الغزيرة المتواصلة وكثافة الضباب والبرد القارص، من الاستمتاع بمفاتن الطبيعة، الَّتي تتفرد بها هذه المدينة دونًا عن بقيَّة مُدُن آسيا الوسطى... مظاهر التديُّن ووجود المساجد وصوت الآذان وغيرها من المؤشِّرات، ليست ملحوظة في كازاخستان، وأقلّ بكثير عمَّا هو الوضع في أوزبكستان، مع أنَّ نسبة المُسلِمين هنا تصل إلى حوالي (70%) من عدد السكَّان... تتوسَّط «الماتي» الغابة، وتحيط بها الجبال المزدانة بطبقات من الثلج، تتلألأ كُلَّما أسقطت الشمس أشعَّتها عَلَيْها في الأيَّام الصافية، وتمتزج ببياض الغمام والضباب في الأوقات الملبَّدة بالسُّحب، فتتراءى قِممها من جميع أحياء ومناطق المدينة، أيُّهما سبق الآخر الغابة أم الماتي؟ بالطبع الإنسان الَّذي اختار السكن في قلبها، بعد بحثٍ واستطلاعٍ وتخيُّر، وتسليم بأنَّه ـ أي المكان ـ هو الأنسب والأفضل لبناء حياة فيه، إذن لم، لم يعتَد الكازاخ على الطبيعة؟ لماذا لم يجرفوا الأرض ويقطعوا الأشجار ويستبيحوا الغابة ويهيمنوا على أراضيها لتحقيقِ مصالحهم بتشييد الأبراج والبنايات العالية والزحف المتواصل لتقليمِ وتخريبِ كُلِّ ما ينتسب إلى الطبيعة البِكر؟ لماذا استثمروا الغابة وأشجارها العملاقة فهذبوها وأولوها العناية والرعاية واحتضنوها لتكُونَ سياجًا يحميهم من الأمراض والتلوُّث والدخلاء وتوحُّش المُدُن وغربة الحداثة...؟ لماذا حوَّلوها إلى جنائن للترفيه والاستجمام وممارسة المشي والرياضة وإراحة النَّفْس والتجمُّع الأُسري؟ هل مردُّ ذلك إلى العلاقة التاريخيَّة الوطيدة بَيْنَ الكازاخ والطبيعة؟ هل لأنَّ الماتي وُلدت من رحمِ الطبيعة فهي الأُمُّ وعلى الشَّعب رعايتها وبرّها والإشراف عَلَيْها وحمايتها من التلوُّث والتخريب؟ هل لأنَّ المُجتمع الكازاخي على درجة عالية من الوعي والإدراك بقِيمة الطبيعة وأهميَّتها في تحسين المزاج وحماية الصحَّة النفسيَّة والحفاظ على البيئة من الاعتلال؟ قد يكُونُ كُلُّ ذلك قاد إلى هذه الحميميَّة والتآلف والصحبة والتفاهم بَيْنَ الطبيعة و»الماتي»، فكانت الاستثناء في انبثاق لوحةٍ فريدةٍ تتميَّز بهذا الجَمال والفتنة والحُسن. ففي طشقند وسمرقند وبخارى والماتي، نمشي ونمشي لساعات، نقطع المسافات تلو المسافات، شوارع وأسواق، أزقَّة وجنائن، ميادين وساحات عامَّة، مباني فخمة وأبراجًا شاهقة ومُجمَّعات تجاريَّة تغرينا فستوقفنا لاستطلاعها والتطواف بَيْنَ علاماتها التجاريَّة... نمرُّ عَلَيْها تباعًا، تأسرنا العمارة الفاتنة، وتناسق المباني وجَمالها ونظامها الَّذي لا يسمح بشذوذ واجهة تتقدم لمسافةٍ ولو بسيطة، أو تتأخر عن الخطِّ المُحدَّد بَيْنَها وبَيْنَ الشوارع والمماشي والمواقف المخصَّصة، ننخرط في نقاشات ومقارنات وقراءات متنوِّعة تثيرها شجرة مثمِرة، لوحة فاتنة، معْلَم عجيب شكلُه، غريب تصميمُه، ونغوص في دلالاته، العولمة، الديمقراطيَّة، تأثير الاستعمار الروسي على المنطقة وملامحه وانعكاساته، أخلاق الشَّعب وثقافته وتمسُّكه بإسلامه، وصول الفتح العربي إلى آسيا الوسطى كمعجزة، غنى وازدهار حضارة وثقافة الأوزبك والكازاخ، ونجاحات الماضي الَّتي تعلن عَنْها إنجازات الحاضر، التنمية المتسارعة، السياحة، وما تمتلكه هذه البلدان من إمكانات وخيارات واسعة، عدد السكَّان (٣٧) مليونًا من الأوزبك و(٢٥) مليونًا في كازاخستان، وتأثيرات القوَّة الشرائيَّة على الأسواق والصناعات ونشاطها، فالسفر نهر متدفِّق بالمعرفة والمنافع الَّتي ينبغي للمسافر استثمارها... تذهلنا الحدائق الَّتي لا تنتهي والأشجار المعمِّرة الَّتي تحجب شعاع الشمس، تسكرنا روائح الورود والزهور الَّتي تفوح من الأوراق والأغصان المثمِرة والمتفتِّحة، لوحات جماليَّة مفعمة بالمعاني والدلالات المرتبطة بتاريخ المُجتمع وثقافته، نصُب تذكاريَّة توثِّق سِيَر الشخصيَّات الملهِمة وإنتاجها العلمي ـ الفكري ـ الأدبي ـ الإنساني، مماشٍ تأخذ السَّائر فيها إلى أيِّ مكان يقصده، نجري ونجري فلا نشعر بتعبٍ ونصَبٍ وإعياء، النشاط يتجدَّد والفرح يتضاعف وكيمياء السعادة تفرز كميَّات أكبر، الطقس منعش وجودة التخطيط محفِّز، والجَمال المطلّ من كُلِّ مكان يرفع معنويَّات الروح ويساعد على المزيد من الإبداع... يا لفتنةِ هذه المُدُن وأناقتها وبراعة مخطِّطيها، كيف تيسَّر لهم أن يُضفوا كُلَّ هذا الإبداع، ويُجيدوا هذا العمل الجبَّار، ويبرعوا فتتفتق عقولهم لتنتجَ هذه الأفكار الابتكاريَّة... إنَّه الإخلاص والأمانة والوطنيَّة والعِلم والتخطيط الرشيد كُلُّها تصبُّ وتوجّه لخدمة الأوطان، وعندما يتحقق ذلك وتتعاظم وتنمو وتتغلب المصالح العامَّة، تظهر مُدُن بهذا الجَمال الفائق والتخطيط المُتقن الفريد.

سعود بن علي الحارثي