الجمعة 18 أكتوبر 2024 م - 14 ربيع الثاني 1446 هـ
أخبار عاجلة

قراءة بلاغية تربوية فـي بعض آيات الهجرة النبوية

الأربعاء - 17 يوليو 2024 06:10 م
40

نقرأ هنا بعض الآيات التي نزلتْ بشأن الهجرة المباركة في سورة التوبة، وندور حولها بلاغيًّا، ونستقي منها الجوانبَ التربوية، ونعيش أجواءَ الهجرة النبوية الشريفة، ونتفيَّأ ظلالها، ونعبق بعضًا من شذاها.

يقول الله تعالى في سورة التوبة:(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة ـ 40).

(إلا) هنا تحمل معنى التهديد، والوعيد، وهي مكوَّنة من (إِنْ) الشرطية الجازمة، و(لا) النافية، فأدْغِمَتِ النونُ في اللام، فصارت (إلا) أيْ: إن لم تنصروه فإن الله ناصره، وعندئذٍ لم تحققوا شيئًا من ادِّعاء المحبة والولاء له، والفعل:(تنصروه) فعل مضارع مجزوم بإنِ المدغَمَةِ في (لا)، والأصل:(إن لا تنصروه فقد نصره الله)، والهاء (في تنصروه) عائدة على شخصه الشريف (صلى الله عليه وسلم)، أي: إن لم تنصروا رسولكم محمدًا فإن الله ناصره، وبكل تأكيد لن يتركه؛ إذ هنا بمعنى: حيث، فهي ظرف للزمان الماضي، وأخرجه أي اضطروه إلى الخروج، وذلك لمَّا همُّوا بقتله، ووقف أمام داره أربعون شابًّا جَلدًا من مختلف قبائل العرب لينساح دمه بين القبائل فلا يعرفوا أخذ القصاص له، فكانوا سببًا لخروجه من مكَّة هاربًا منهم، مع صاحبه وحبيبه سيدنا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه: ثاني اثنين أَيْ: واحدَ اثنيْن، وهو كناية عن قِلَّتهم، ومع ذلك فقد نصروا الدعوة، ودافعوا عنها، وهي الآنَ منتشرةٌ في كل الكون، وربوع الدنيا، وثاني اثنين وهما: الرسولُ الكريمُ (صلى الله عليه وسلم)، وأبو بكر - رضي الله عنه - والمعنى: نصره الله منفردًا إلاَّ من أبي بكر:(إذْ هما في الغار)، وهي جملة كناية عن أنه كان يمكن احتواؤهما، وكان يمكن للكفار احتجازُهما، وهو في الوقتِ نفسِه كنايةٌ عن كمال رعاية الله، وحسن عنايته برسوله، وصحبه الكريم، والضمير في:(إذ هما) يتوجه إلى شخصه الشريف، وصاحبه في رحلة الهجرة أبي بكر الصديق، والغار هو غارٌ في جبل مكة، يقال له: ثور، (إذْ يقول لصاحبه) أيْ: لصاحبه أبي بكر، فهو كناية عن موصوف، هو أبو بكر، الصاحب الأمين، والحبيب القريب، إذ قال له:(لا تحزن)، و(لا) هنا ناهية، حيث ينهاه عن الحزن، والأسى، والخوف عليه، وعلى دعوته، وذلك أنَّه خاف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطَّلب، وهو طلب قريش له ليقتلوه، وتنتهي دعوته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:(لا تحزن، إنَّ الله معنا) وهما أسلوبان لغويان: أسلوب نهي، وأسلوب تأكيد بـ(إنَّ)، والغريب أن الأسلوبين صَوْتُهُمَا عَالٍ، جهوري، ومع ذلك قالهما الرسولُ بكلِّ ثبات، وهدوءٍ، ورباطة جأش، واستقرار قلب، وسيدُنا أبو بكر من شدة خوفه قال للرسول الكريم:(يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قَدَمَيْهِ لرآنا)، فذكَّره أن الله معهما، ومن صفات الله أنه لا يُرَى، وأنه لا تدركه الأبصارُ، فهما إِذَنْ لا يُرَيَانِ، ولا يَسْمَعُهُمَا أحدٌ، حيث يُجْرِي اللهُ صفاتِه عليهما، ويمنعهما منَ الكفار، وينصرهما عليهم:(فأنزل الله سكينته) أي: ألقى في قلب أبي بكر ما سَكَنَ به قلبُه، وهدأ به رُوعَه، والجملة كناية عن صفة هي الهدوء، والفعل (أنزل) يعني: أن النزول كان عاجلًا، أي: دفعة واحدة، وهو من تتمَّة التهدئة، وكمال استقرار القلب، والإضافة في:(سكينته) تفيد التشريف، وتمام التعظيم، وقوله:(وأيَّده) أيْ: أيَّدَ رسوله، وتضعيف الياء يدل على قوة الرعاية، وحسن العناية، وقوله:(بجنودٍ لم تروها) أي: قوَّاه، وأعانه بالملائكة يوم بدر، أخبر هنا أنَّه صرف عنه كَيْدَ أعدائِهِ، ثمَّ أظهره، أيْ نصره بالملائكة يوم بدر، وتنكير:(جنود) يجعلها جنودًا لها صفاتٌ لا تُتَخَيَّل، ولا تُتَصَوَّر، ومن تلك الصفات أنها لا تُرَى، وهو أخطرُ سلاحٍ، وقوله:(وجعل كلمةَ الذين كفروا) وهي كلمة الشِّرك، أي: غيَّرها من عليا في الظاهر، والشكل إلى سفلى (السفلى)، (وكلمة الله هي العليا) يعني: كلمة التَّوحيد؛ لأنَّها عَلَتْ، وظَهَرَتْ، وكان هذا يومَ بدر. ولعلك ترى أن التاءَ في (كلمة) مضمومةٌ على أنها مبتدأ أول، وجملة: (هي العليا) هي مبتدأ ثان، وخبر المبتدأ الثاني، وجملة:(هي العليا) هي خبر المبتدأ الأول، وهذا يعني أن الاعتقادَ الذي يجب أن يسود في قلب وروح وعقل كل مؤمن أن كلمة الله دائمًا عُلْيَا، ولا تكون سُفْلَى أبدًا مهما بدا في الظاهر أن الإسلامَ مزحزحٌ عن حركة الحياة، لكنَّ كلمة الله عليا ابتداءً، لا بِجَعْلِ جاعلٍ، هذا هو ما يؤديه رفعُ (كلمة) في قوله:(وكلمةُ الله هي العليا) من جلال المعنى، وكمال الدلالة، فهي عليا من غير جعل جاعل، ولا فِعْلِ فاعلٍ، ولا يمكن أن تكون كلمة الله أبدًا سفلى، ثم يأتي أحدٌ - مهما بلغ من القوة والقدرة - ليجعلها عُلْيَا، إنما هي عُليا عُليا، ابتداءً، وانتهاءً، ويستحيل أن تكون سفلى، هذا ما تؤديه ضمة التاء، وجلال الرفع فيها، والتوكيد بالضمير (هي) يؤكِّد هذا، ويقوِّيه، ويرشحه، ويعطينا هذا المعنى العقدي السامي الكبير، والمراد العالي الجليل. ويأتي هذا الختام ليؤكد حقيقة الاعتقاد في الله ـ عز وجل:(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فالله في كونه عزيزٌ، وفي فعله وتصرفه في كونه حكيمٌ، واللفظتان نكرتان، فهما تأتيان بكل معانيهما، وتعدد مفاهيمها، وجمال مقاصدهما، وجلال مراميهما.

وإنّ الناظر في الآيات الكريمات يرى الكثيرَ من المؤكدات، والأمور المثبِّتَات لقلب الرسول، وصاحبه، ومعهما الأمةُ كلُّها، ومع كلِّ داعية يمضي على دربهما، ويترسم خطوهما، ويتأسى بهما، ويقتدي بصنيعهما. ففيها أسلوبُ التوكيد للجملة الاسمية بـ(إن) وأسلوبُ التوكيد للجملة الفعلية بـ(قد)، وأسلوب التوعُّد، والتهديد لكل من يتأخر عن نصرة الله، ورسوله، ودينه، ودعوته، وأسلوب التقديم والتأخير:(نصره الله)، وأسلوب التكرار المؤكِّد لـ(إذ)، واستعمال الجمل الاسمية، وهي لون من ألوان التوكيد عند النحويين، وأسلوب النهي، وفيها الأسلوب الإنشائي، والأسلوب الخبري، واستعمال الأفعال الماضية التي تُدْخِلُ الفرحة على قلب الرسول، وصاحبه، ومعهما الأمةُ كلُّها، وأسلوبُ الوصف:(جنودا لم تروها)، وتغايُر الإعراب؛ لتعميق الجانب العقدي في قلب كلِّ مؤمن (وكلمةُ الله هي العليا)، واستعمال أسلوب التفضيل:(العليا مؤنث الأعلى)، وأسلوب العطف، وتعدُّد الخبر في:(والله عزيز حكيم)، وتنكير الكلمات الذي يعني شمولَ معانيها، وكمالَ مبانيها، واتساعَ مغانيها وتمامَ مراميها. كل ذلك ليبن أنه - جل جلاله - مع المؤمنين في كلِّ عملٍ يقومون به، وكل فعلٍ من شأنه إعلاء كلمة الله، ونشر دينه في العالمين، والتمكين لشرعه. إنها كلماتٌ تتمكَّن من القلب، وتدفع إلى العمل بكل قوة، وثبات، وجرأة؛ لأن الداعية الصادق لا يهابُ أحدا إلا الله، وهو موقنٌ أن الله معه في كل خُطاه، يؤيده، ويُنجِحُ مسعاه، ويكلل عملَه بالقبول، والتوفيق.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية