حين رأيتها في ذلك اليوم بحثت عن دائرة الألق التي كانت تحيط بها، ابتسامتها التي تدخل إلى القلب، كلماتها الجميلة التي تصافح الروح والوجدان، يديها المغموستين بالعطف والحنان.
قبل سنوات من الصعب تحديدها:
كان وجودها يشعل دفقات من الفرح والسعادة وينتشر عبقها ليهطل على أجساد المحيطين بها، كان وجودها أخاذًا يسحرهم ويجعلها نجمة المكان بلا منازع.
في زاوية من زوايا السوق كانت تضع أغراضها القديمة، تجهز الأكلات الشعبية التي قامت بتجهيزها مسبقًا، تضع اللقيمات التي كان لونها ذهبيًا تسيل عليه قطرات العسل بكل انسيابية، وترص بجانبه صحن القروص الذي يندمج مع اللقيمات لتطغى رائحة العسل على المكان، ومن ثم تصف بقية الصحون التي تحوي على حبات من الدنجو والباقل وتضع أكياسًا كبيرة غُلفت وبداخلها مجموعة من الخبز العماني.
كانت تبيع جميع ما لديها قبل غروب الشمس، تبتسم بسعادة وتجمع حاجياتها بصمت وترحل.
كانت ملامح الجمال تبدو واضحة في محياها، شيء في صوتها وكلماتها تجعلك تتمنى لو تستمع لها دون توقف، أن يبقى الصحن في يديك لأطول فترة، وأن تجلس لتشاهد يديها اللتين تتحركان بكل حب وامتنان.
في طفولتها:
منذ طفولتها كانت تجمع أترابها في دائرة، وتتوسط تلك الدائرة، وتبدأ تلك الجلسة بسرد حكاية من حكاياتها الجميلة، ورغم أنها تستخدم الحصى وقطع الخشب المتباينة وبعض الأصداف غير أن تلك القصص تلهب عقول جميع الفتيات المتحلقات حولها، ومن ثم تقيم جلسة سوقها البدائية وتصنع طعامها من الطين والماء، وتشارك الجميع في عملية البيع والشراء، كانت الفتيات لا يشعرن بالتعب ولا يحسن بانقضاء الوقت، حتى تلهب أشعة الشمس ظهورهن، وتجلدهن بسياطها، فيتفرقن وهن يمنين النفس بجولة أخرى من اللعب المتواصل مع مريم.
اسمها مريم:
اسمها مريم، كانت جميلة بضفائرها الطويلة، وبشرتها الحنطية، وأنفها المستقيم، وعينيها الواسعتين بلون الليل الحالك، كان حديثها عذبًا يتدفق كجمال الغيوم المنسابة، تشعرك تلك الكلمات بأنك قادر على إمساكها وتذوقها، كانت دائمًا تحصل على أكبر عدد من الحجارة اللامعة حين تبيع بضاعتها التي صنعتها من الطين، وزينتها بما وجدته من أصداف قرب البحر، كل فتاة كانت تحاول التقرب منها، غير أنها منحت الجميع حبها وحنانها، حتى أضحت أذنًا وقلبًا لكل الأسرار المنبثقة من صدور فتيات الحارة حين دخلن مرحلة جديدة في حياتهن.
في بيت مريم:
عاشت مريم مع والدتها المطلقة، لم تكن تتحدث عن والدها إلا نادرًا، كانت أمها المرتكز الأساسي لحياتها، تتحدث عنها دائمًا، تقول بأنها تكاد تكون نسخة عنها، غير أن صمت والدتها، وحديث مريم المتواصل يشكلان عالمًا من التآلف والانسجام، فمريم تحكي وتثرثر، ووجه والدتها الصامت يتدفق بمعان كثيرة لا يفهمها سوى مريم، كان حديث والدتها مقتضبًا، غير أن مريم كانت تكمله بحديثها العذب. في المطبخ الصغير كانت مريم تجهز الطعام بمعية والدتها، تصنع الأشياء بحب، ويصبح كل ما حولهم كائنات حية تشاركهم اللحظة والفرح. يشكلن العجين بكل دقة، ويضعنه في الزيت بينما لسان مريم لا يتوقف عن الحديث والضحك، وروائح الطعام الطيبة تنتشر لتملأ أجواء الحارة.
شذى الريحان:
عشقت مريم الريحان، كانت تحب زراعته، امتلأت معظم المساحات الفارغة في بيتهم بشتلات من الريحان، تحرص على وضعه بين خصلات شعرها الطويل، وتداوي به الجروح، وتمزجه بالشاي الذي تشربه، وهي تجلس بالقرب من أوراقه تسافر في عوالم من الألق والخيال، تستنشق عطره بلا توقف، وتحزن بشدة حين يأتي الصيف وتذبل بعض الشتلات الموضوعة بعيدًا عن الظل.
حين يعتدل الطقس تحمل بذورًا كثيرة وتنثرها على مساحات الأرض الفارغة، تشعر بالغبطة حين تخرج تلك الخيوط الخضراء من تحت التربة وتلتمس طريقها نحو النور.
كانت تلك النباتات تشبه مريم، بجمالها وخفتها وتشبثها بالحياة؛ لذا أصبحت مريم ريحانة سخية تفيض بالحنان والعطاء، ويبزغ ألقها باختلاف الفصول والأحوال.
دموع ووجع:
بعد أن توفيت أم مريم، ذبلت مريم كما ذبلت شتلات الريحان في بيتهم، قل خروجها من البيت وازداد حزنها وتفاقم ليخلع هالتها السابقة ويشكل هالة جديدة من الحزن والأسى، توقف لسانها عن الحديث لفترة طويلة، وجف معينها من القصص والحكايات، وبعد أيام رأينا قفلا كبيرًا يؤطر بابهم القديم، وأخبرونا بأن مريم رحلت مع أبيها لقرية جديدة، تاركة صحونها ومطبخها الصغير، وشتلات الريحات تأن من خلفها بلا مجيب.
في يوم
اليوم رأيت مريم بعد سنوات عديدة مرت على رحيلها، لم أجد هالة النور التي ترافقها أينما حلت، ولم أسمع حديثها العذب ينساب بلا توقف، كان الصمت يغلفها، والهدوء يكسو ملامحها، كبرت مريم خلال السنين الفائتة عدة سنوات دفعة واحدة، تحركت ببطء في الدرب، لم تلتفت، ولم أشم رائحة الريحان.
د . أمل المغزوية