سادسا : مدينة الآثار وفتنة العمارة .
كم كنت مدهوشا ومغمورا بدفقات هائلة من الفرح، غير مصدق وغير واثق في الوقت ذاته، متأرجحا بين واقع قائم مشاهد بالعين المجردة، وخيال يأبى التسليم بما يلتقطه البصر من مشاهد وصور لا توجد في مخيلته إلا في محتوى صفحات الكتب وقصص الأولين وسرديات «ألف ليلة وليلة»، أوقفتنا السيارة التي أقلتنا من محطة قطار بخارى الرئيسية، أمام فندق «كرفان بلاس»، تحيط به غابة من الآثار والمعالم والاطلال والنصب التاريخية - الحضارية المعلنة عن تفرد واستثنائية «بخارى»، مقارنة بغيرها من المدن الأوزبكية، بل ومدن آسيا الوسطى جميعها، قبب تتلألأ مزدانة بألوانها الساحرة، بوابات يسلب جمال زخرفتها العقول، قلاع تمتد أسوارها إلى مسافات يعجز البصر عن بلوغ نهاياتها، أبراج ومآذن فاتنة، حارات وأسواق وأزقة من الأزمان الغابرة، قصور وبيوت عتيقة، ما زالت كما كانت تعيش عبق التاريخ، مراقد أئمة وأولياء وحكام وسلاطين وعلماء تؤكد على عظمة وبذخ وازدهار ومكانة بخارى المتميزة بين المدن الإسلامية، وتاريخها النابض والنشط بالمدارس والمعاهد والمراصد والحركة العلمية التي استقطبت طلبة العلم وعلماءه من كل بقاع العالم، يا لهذه الفتنة، والجمال والبذخ والمشاهد التي امتلكت مشاعرنا وحواسنا وسيطرت على عقولنا وأربكتنا، وأعجزتنا عن التعبير عما نراه من معجزات الحضارة التي تتوالى وتحتشد، دون أن تترك لنا فرصة ولو قليلة للتفكير والاستيعاب، لقد قرأنا التاريخ وتشبعنا بتفاصيل أحداثه ومراحله وشخصياته، والممالك وازدهارها التي شهدتها بخارى، ولكن ما نراه يفوق الخيال والمتصور حتى، إلى أين نتجه وأي الطرق سوف نسلك؟ أي من هذه الأبنية التاريخية يجب أن نعطيها الأولوية، إننا نخوض في حشد من المعالم والصروح، ونحن في حيرة من أمرنا وخلاف فيما بيننا والوقت ينفذ منا والأيام المخصصة لزيارة المدينة قليلة، والبرنامج مزدحم، وبخارى تقبض على تاريخ العالم القديم، وتفيض بمنتجاته وإنجازاته، والعربة السياحية على مدى ساعتين وهي تنقلنا من تحفة نادرة إلى أخرى أكثر جمالا وإدهاشا، ونحن نتحسر على أننا فوتنا التقاط صور هنا أو هناك خوفا من تبديد الدقائق وتفويت معالم أهم، جمال يصعب توصيفه، تاريخ يستعصي على الاستيعاب، عظمة لا حدود لها، إنها بخارى فلا غرو لمن يزورها أن يصاب بالحيرة والابهار والادهاش... المئذنة الكبيرة لمسجد كالون، أبقاها جنكيز خان بعد أن سوى بالمدينة الأرض، وظلت سليمة بعمارتها الفاتنة حتى اليوم، صممها «المعماري باكو، وبناها السلطان القراخاني سليم خان في 1127م، استخدمت للأذان وتعرف أيضا ببرج الموت بسبب الإعدامات التي تنفذ رميا من أعلاها»، مزار وضريح الأخوة اليمنيين الأربعة الذين قدموا من اليمن وعرفوا بالصلاح والتقوى والزهد وفعل الخير، المدرسة الإسلامية التي تخرج منها كبار علماء وسط آسيا، مسجد كالان، حصن بخارى، متحف بيت فايز الله، متحف بخارى الحكومي، مدرسة خور الصغرى، سوق تقي ساروفون، قلعة أرك، مجمع بوي كالون المعماري، مدرسة ميرى العربية... وغيرها الكثير الكثير، إنها مدينة الآثار والتاريخ والحضارة، فلا عجب أن تصنفها اليونسكو على لائحة التراث العالمي المحمي، ففيها مباني يزيد عمرها عن ألفي عام، وحضارة مزجت ثقافات وشعوب وآداب الأوزبك وفارس والعرب والمغول والترك والروس... هي مدينة الآثار وفتنة العمارة : تجاور نهر «زرافشان»، فيما تعود الجذور الأولى لاسمها إلى «ويهارا»، أي الدير أو الصومعة، ويبدأ تاريخ ازدهارها الحقيقي وتألقها مع الفتح الإسلامي. ووفقا لتصنيف اليونسكو فإن بخارى هي «أحد أجمل المدن التاريخية في العالم، إذ تمتلك بلدة قديمة لم تتغير ملامحها منذ قرنين. يوجد ضريح مؤسس الطريقة النقشبندية، الصوفية، بهاء الدين محمد بن محمد النقشبندي - الذي يعود نسبه وفقا لواضعي سيرته من مريديه إلى كل من الخليفتين الراشدين أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب - في قرية «قصر العارفان»، على أطراف بخارى، وما زال حتى اليوم مزارا يقصده طالبي البركات والشفاعات من جميع أنحاء آسيا الوسطى، كما تحول إلى مقصد سياحي بارز، وتحوم حول سيرته ومرقده الكثير من الأساطير والكرامات، ووثقت أقواله المشبعة بالحكم والدروس والقيم الإنسانية الصوفية، على طول المدخل الموصل إلى المرقد والمسجد القريب منه، تحكي سيرته بأنه كان زاهدا متقشفا، لا يأكل إلا خبز الشعير الذي يزرعه ويخبزه بيده ومن عمله اليومي، يحب الفقراء ويخدمهم ويصنع لهم الطعام، يشير أحد المستشرقين إلى مرقده بأنه يقع في «بستان مليئ بأشجار التوت والمشمش»، و»يتوافد على ضريحه على الدوام خلق كثير، حتى من الصين»، وجاء في كتاب الحدائق الوردية والأنوار القدسية»، أنه «عندما توفي بهاء الدين دفن في بستان له، وبنيت قبة وجامع في جانبه، وأوقف الملوك والعظماء كثيرا من الأملاك عليها»، كتب على مرقده الآتي «هذا المرقد المنور لحضرة الشيخ الأجل الكبير محيي السنة ماحي البدعة كاشف الحقائق مظهر الدقائق حجة الحق على الخلق محمد بن محمد بهاء الدين النقشبندي البخاري قدس سره، ولد في محرم س٧١٨م، في هذه القرية المباركة «قصر عرفان....الخ». من أقواله التي وثقت في الممر «الله في القلب والأيدي في العمل». في ذات اليوم شمل استطلاعنا المتواصل للمدينة، التطواف في حدائق ومرافق القصر الصيفي لأمير بخارى، الذي يحمل تصميمه الطابع الأوروبي، ويضم مجموعة من المرافق والمباني، أو القصور المنفصلة المخصصة لزوجات الأمير، ومجلس استقبال كبار المسؤولين، وثالث لإقامة الضيوف... وتعرض في قاعاته المقتنيات والآثار واللوحات الفنية والاثاثات السائدة في القصر، يشرح المرشد السياحي قصة تحديد واختيار موقعه، بأنها تمت على ضوء تجربة ذكية، بوضع قطع من اللحم في أماكن مختلفة، وهذا الموقع الوحيد الذي لم يفسد فيه اللحم، ما يثبت خلوه من التلوث وصلاحيته للسكن، وتم الاستيلاء على القصر من قبل الروس وحولوه إلى مقر لإقامتهم في بخارى، إبان احتلالهم لأوزبكستان... حصن أو قلعة أو «تابوت» بخارى، الذي صمم على شكل تابوت، يقع على تلة مرتفعة في قلب المدينة، ويعتبر تحفة معمارية لا تضاهى في بذخ تشييدها، وجمالها وموقعها الاستراتيجي وتحصيناتها العسكرية وأسوارها العالية، ومرافقها التي لا تحصى، وتعود إلى عصور مختلفة بدأ من القرن الخامس الميلادي وانتهاء بالقرن التاسع عشر عند استيلاء الروس عليها في ١٩٢٠م، وقد اندثرت وتهدمت عدة مباني تابعة للحصن، وتشتغل الجهات المتخصصة حاليا في التنقيب عن أية آثار وأطلال داخله وبجواره، يذكر أن هذا المعلم خصص في فترات زمنية كمقر وبلاط رسمي لحكام بخارى، ويقصده السياح حاليا من جميع بقاع العالم، وحولت بعض الغرف والقاعات إلى معرض لمقتنياته وآثاره... «يتبع».
سعود بن علي الحارثي