الخميس 24 أكتوبر 2024 م - 20 ربيع الثاني 1446 هـ
أخبار عاجلة

الصعود فـي المكان

الأربعاء - 10 يوليو 2024 04:49 م

د.أحمد مصطفى أحمد

10

من تمارين طابور الصباح في المدرسة ونحن صغار كان هناك تمرين «الجري في المكان»، أي أن نحرك أرجلنا كأننا نجري ونحن في أماكننا لا نتقدم ولا نتأخر. كان ذلك عوضا عن الجري كما في مسارات النوادي لأن فناء المدرسة يضيق بأعداد التلاميذ. أتصور أن ذلك أقرب وصف يمكن أن ينطبق على التغيرات في بلدان أوروبية رئيسية نتيجة الانتخابات الأخيرة، خاصة بريطانيا وفرنسا. يتميز البلدان بأنهما حملة الإرث الاستعماري الامبراطوري في النصف الأول من القرن الماضي، وان بهما نظاما ديموقراطيا راسخا، أحدهما ملكي والثاني جمهوري. فرغم تعليقات البعض، خاصة في منطقتنا، بأن الشعب في البلدين اختار التوجه يسارا على عكس موجة صعود اليمين في دول أوروبية مثل ايطاليا وهولندا إلا أن الأمر قد لا يكون بهذا الشكل من التغيير الحقيقي. صحيح أن فرنسا تفادت تشكيل حكومة من اليمين المتطرف، الذي حقق تقدما في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية، لكن تقدم أحزاب اليسار في الجولة الثانية لم يسفر عن نتيجة حاسمة لصالحه تسمح له بتشكيل الحكومة بطريقة مريحة. فضلا عن أن اليسار الذي جاء في المقدمة هو عبارة عن تحالف أحزاب متباينة في رؤاها ومواقفها بغرض منع فوز اليمين المتطرف وبالتنسيق مع تيار الوسط أيضا.

أما في بريطانيا فإن فوز حزب العمال لم يكن لأنه «حزب اليسار»، الذي تحول عن اصوله التقليدية منذ فترة توني بلير وجوردون براون في تسعينيات القرن الماضي، إنما لأن القاعدة الانتخابية لحزب المحافظين اليميني لم تصوت لحزبها احتجاجا على فشل حكومته في إدارة البلاد خاصة اقتصاديا. ولم يجد هؤلاء المحافظون حزبا أقرب في توجهاته الحالية لليمين من حزب العمال الجديد بقيادة كيير ستارمر، لذا فمن لم يصوت منهم لصالح اليمين المتطرف (حزب الاصلاح) صوت للعمال. ما يطرحه كيير ستارمر وفريقه في قيادة العمال الذين أصبحوا في الحكومة لا يختلف كثيرا عن سياسات اليمين، أو تحديدا يمين الوسط. والواقع أن الفروق بين اليمين واليسار في السياسة للدول الديموقراطية التقليدية في الغرب لم تعد موجودة منذ نهاية القرن الماضي، والتميز الوحيد الآن على ساحات الدول الغربية سياسيا هو في اليمين المتطرف وبدرجة أقل اليسار المتشدد ويغلب عليه أن من ينتمون إليه «ناشطون» أكثر منهم سياسيون. فالحديث عن «صعود اليسار» في بريطانيا وفرنسا مبالغة غير مبررة، ولا يبدو ما يحدث أكثر من «صعود في المكان» مثل الجري في المكان.

حتى اليمين المتطرف، على الرغم من ان من يصوتون له هم كتلة صلبة من المؤيدين بعضهم يقترب في آرائه ومواقفه من العنصرية، إلا أن فوزه في ايطاليا وهولندا لم يكن أكثر من تراجع اهتمام الغالبية بالسياسة والانتخابات ما سمح للكتلة المتطرفة أن تفرض مرشحيها للسلطة باقل نسبة من الأصوات الشعبية. وفي النهاية، يسحب اليمين المتطرف اليمين التقليدي معه كي يتمكن من الحكم لكن طبعا في النهاية تصطبغ السياسات بمسحة تشدد وإن كانت ليست بقدر شعارات الانتخابات المغالية في التطرف. هذا ما حدث أيضا مع حزب العمال في بريطانيا، فرعم الفوز الكاسح بعدد مقاعد البرلمان التي أهلته لتشكيل الحكومة بأغلبية مريحة جدا إلا أن الحزب لم يحصل سوى على أكثر قليلا من ثلث أصوات الناخبين. أي أنه يحكم بأغلبية الثلث، بينما ثلثا البريطانيين لم يريدوه في السلطة لكن أصواتهم تفرقت بما جعل العمال يفوز بتلك الأغلبية الكبيرة. تدرك قيادة الحزب ذلك، وهي في سياساتها لن تغير كثيرا عن مسار «الوسط» الذي يصبغ السياسة البريطانية في العقود الأخيرة. أما الصعود الوحيد الذي لم يكن في المكان فكان فوز اليمين المتطرف للمرة الأولى بمقاعد برلمانية وإن لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وايضا فوز عدد مماثل أو أكثر قليلا من النواب على يسار حزب العمال، سواء ممن ترشحوا عن حزب «الشغيلة» لجوروج جالاواي أو مستقلين. وهؤلاء كان برنامجهم الانتخابي قائما بالأساس على معارضة الحرب على غزة والمطالبة بوقف دعم الاحتلال الصهيوني.

تبدو المشكلة في فرنسا أعمق كثيرا من الوضع في بريطانيا، فالأحزاب اليسارية الفرنسية التي فازت معا بالعدد الأكبر من نواب البرلمان ليست طيفا واحدا، بل إن برامجها متعارضة في بعض الأحيان. كما أن تيار الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الذي جاء ثانيا من حيث المقاعد بالبرلمان، لا يريد أن يكون خارج الحكومة ويشكلها فقط اليساريون. فلا صعود هناك لأي تيار، باستثناء ما كان يحققه اليمين المتطرف في الجولة الأولى من الانتخابات. وكلها حركة في المكان، لكنها ليست حتى حركة متسقة، وهذا ما يجعل كثيرين يتخوفون من مزيد من الاضطراب السياسي والاقتصادي في فرنسا في الفترة القادمة وحتى الانتخابات الرئاسية عام 2027. في النهاية، ورغم ما يبدو من صعود لليمين المتطرف في بعض الدول وصعود أحزاب يسارية، أو كانت يسارية، في دول أخرى فإن السياسة الأوروبية ما زالت إلى حد كبير في الوسط. وما كل هذا الحراك سوى جري في المكان بلا تقدم ولا تأخر.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري