الجمعة 18 أكتوبر 2024 م - 14 ربيع الثاني 1446 هـ
أخبار عاجلة

الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم (حرف السين ودوره في البلاغة القرآنية) (2)

الأربعاء - 03 يوليو 2024 06:12 م
40



.. كما أن الهاء حرف ضعيف، لَهَوِيٌّ، لا يكاد يُسمَع، والميمُ يُغلَق معها الفمُ، فلا تسمع منه شيئًا، والسينُ حرفُ همسٍ، لا يظهر منه قولٌ، والمشاهد أن كلماتِ الآية كلَّها تشيرُ إلى رسم لحظاتِ المحشرِ، وتخيُل شيءٍ من زمن الآخرة، ووقت الحساب، وترسُمُ كذلك أخطرَ اللحظاتِ التي تمر على جميعِ الخلق في عَرَصَاتِ يومِ القيامة، حيث اقترابُ الشمس من الرؤوس، وغرقُ الناس في عرقهم إلى شحمة أذنهم، وحيث الحشرجةُ، والبكاءُ، وتذكُّر كلِّ ما قام به الإنسانُ في حياته، وحيثُ الندمُ الكبير الذي يعيش فيه يتذكر تقصيرَه، وإضاعةَ وقتِهِ، وتَصْعَدُ منه عبارةُ (ليت)، نحو:(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (الفجر 23 ـ 24)، ونحو:(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) (الفرقان ـ 27)، ونحو:(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) (الحاقة 25 ـ 27).

فكلُّ كلمات الآية تعطي لنا صورةً مصغرة عن بعض مشاهد اليوم الآخر، حيث تصمُتُ الألسنة التي طالما ملأتِ الدنيا ضجيجًا، وصياحًا، وكبرًا وصلفًا، وإهانةً للخلق، وتنكيتًا، وتبكيتًا، وتضييعًا للوقت، واغتيابًا، وخوضًا في دين الله تشكيكًا، وضربًا لثوابته، وتمحيكًا، كما قال تعالى:(يبغونها عوجًا)، فها هي ذي الآنَ تخرس، وتغلِق فاها، وتنكِّس رأسَها، ولا يمكنها الكلامُ أصلًا، حيث إن جوارح المرء لم تَعْدْ مسخرةً له، كما كان في الدنيا، وإنما هي مأمورةٌ من الله وحدَه، في هذا الموطن، ولا يُسْمَحْ لأحد بكلام إلا بشرطين: الأول: أن يتكلم بإذن من الله(.. أذن له الرحمن)، والثاني: أن يقول صوابًا، ويرضاه الله:(إلا من أذن له الرحمن وقال صوابًا)،(إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولًا)، فلم يَعُدْ في وُسْعِ أحدٍ أن يحكيَ، ويجادلَ كما كان يحكي، ويجادلُ في الدنيا، ولا أن يتكلم في أيِّ وقت ولا يتكلم بما يشاء، فقد أمسى الجميعُ موضوعين في شروط الآخرة، وتحت ضوابطِ اليوم الآخر، وقد حققتِ الأحرفُ الثلاثةُ: الهاء، والميم، والسين دلالةً ساميةً، ومعانيَ عاليةً، وأدخلتْنا في أجواءِ الحياة الآخرة، وعِشْنَا فيها لحظات قاسية، وعُدْنا بنشاطاتٍ، ونفوسٍ تواقة للأعمال الراقية، وللاستعداد للأيام الآتية.

ـ النموذج الثاني: قوله تعالى في سورة الناس:(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)، في تلك السورة الكريمة نجد أن حرف السين هو السمة الغالبة عليها، وأن حرف السين كذلك قد تكرر عشر مرات، وهو أمرٌ لافت للنظر؛ إذ إنها السورة القصيرة التي تحمَّلتْ كل تلك الأعداد من حرف السين، وحرفُ السين - كما هو في المعجم.

د. جمال عبد العزيز أحمد*

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية