تشهد عدَّة دوَل حَوْلَ العالَم انقِطاع الَّتيار الكهربائي، إمَّا لأعطالٍ طارئة في الشبكات أو بشكلٍ دَوْري نتيجة ضغط الاستهلاك على قدرة الشبكات وتوريدات الطَّاقة إِلَيْها. ومع أنَّ الظروف المناخيَّة السيِّئة، مِثل الأعاصير والفيضانات الَّتي تضرُّ بالبنية الأساسيَّة للشبكات أو الثلوج الكثيفة في مناطق أخرى تؤدي إلى حدوث ذلك في مناطق متفرِّقة قاسية المناخ، إلَّا أنَّ ما يحدُث هذا العام يتجاوز ذلك. ففي تلك الأحوال السَّابقة يكُونُ السَّبب «قوَّة قاهرة» كما توصف ويتمُّ إصلاح الأعطال واستعادة التيَّار للمناطق المتضرِّرة. أمَّا الآن، فالأمر يتعلق بضغط استهلاك دائمٍ وعدم قدرة الشبكات على تلبية الطلب المستمر على الكهرباء. وتضطر شركات توصيل الكهرباء للمنازل والأعمال والشركات إلى قطعِ التيَّار، إمَّا لعدمِ قدرة الشبكات على تحمُّل ضغط زيادة الاستهلاك أو لعدمِ كفاية كميَّات الكهرباء المورَّدة إِلَيْها من محطَّات التوليد.
زاد من تفاقُم المُشْكلة بالطبع ارتفاع درجات الحرارة باستمرار عن معدَّلاتها الطبيعيَّة مع موسم الصَّيف، وهو ما يؤكِّد بما لا يدع مجالًا للشَّك أنَّ التغيُّرات المناخيَّة حقيقة واضحة بسبب الانبعاثات الناجمة عن نشاط البَشَر. وربَّما أيضًا أنَّ جهود مكافحة التلوُّث البيئي والتغيُّر المناخي في العقد الأخير لم تكُنْ كافية للحدِّ من أضرار ذلك التغيُّر وزيادة حرارة كوكب الأرض. هذا فضلًا طبعًا عن التطوُّر البَشَري على الكوكب، ليس فقط من ناحية الزيادة المُطَّردة في السكَّان الَّذين تجاوزوا ثمانية مليارات نسمة، وإنَّما أيضًا الحراك الاقتصادي/الاجتماعي. أي التحوُّل من الريف إلى الحضر وبالتَّالي تغيُّر أنماط السلوك السكَّاني وزيادة الاحتياجات من الطَّاقة عمومًا والكهرباء خصوصًا. إلَّا أنَّ هناك عاملًا مُهمًّا لا يُمكِن تجاهله في أزمة زيادة انقِطاع الكهرباء عن السكَّان والمصانع والشركات في الآونة الأخيرة. وهو عامل لا يحظى بانتباه وقد يبدو للبعض قليل الأهمِّية، لكنَّه في الحقيقة في غاية الأهمِّية بالنسبة لاستهلاك الكهرباء حَوْلَ العالَم.
ذلك هو الزيادة الكبيرة في عمليَّات «تعدين» البيتكوين وغيرها من المشفَّرات والَّتي تستهلك كميَّات هائلة من الطَّاقة تُشكِّل ضغطًا غير مسبوق على شبكات الكهرباء. صحيح أنَّه منذ أطلقت بيتكوين وبعدها عدد من العملات المشفَّرة الأخرى للجمهور عَبْرَ شبكة الإنترنت المفتوح قَبل عقدٍ ونصفٍ من الزمن تستهلك عمليَّاتها كميَّات كبيرة من الطَّاقة، لكن ذلك ارتفع مؤخرًا بشكلٍ كبير. تستخدم بيتكوين والمشفَّرات شبكة رقميَّة تُسمَّى «بلوكتشين» تجرى عَلَيْها معاملاتها، وهي شبكة مؤمَّنة أصبحت جهات كثيرة تستخدمها حاليًّا في عمليَّاتها غير تكوين وتداول العملات المشفَّرة. ولكَيْ يحصلَ شخص أو شركة على عملة بيتكوين، أو غيرها من المشفَّرات، يحتاج إلى أجهزة حاسوب (كمبيوتر) فائقة القوَّة تعمل ليل نهار لتصديقِ معاملات على شبكة بلوكتشين بغرض أن يحصلَ المستخدم في النِّهاية على عائد عبارة عن عملة أو عملات مشفَّرة، وتُسمَّى تلك العمليَّة «تعدين» مِثل عمل المناجم بحثًا عن المعادن. مع الإشارة إلى أنَّ العملات المشفَّرة ليست عملات حقيقيَّة لكنَّها مجرَّد أصول رقميَّة تقيم في السُّوق بسعرٍ مِثل أسعار الأصول الورقيَّة الخاضعة للمضاربات. والعملة في النِّهاية عبارة عن كود رقمي على الإنترنت.
بنهاية شهر أبريل شهدت بيتكوين خفض عائد عمليَّات التعدين إلى النِّصف، وهي عمليَّة تتكرر كُلَّ أربع سنوات بسبب محدوديَّة عددِ عملات بيتكوين المطروحة في النِّهاية وذلك لتجنُّب التضخُّم الكبير في سُوقها. وفي الشَّهر الماضي ارتفع مؤشِّر استهلاك الطَّاقة من قِبل المُعدِّنين الباحثين عن بيتكوين حَوْلَ العالَم حسب شركة «جلويال كوموديتيز إنسايتس» الَّذي يتابع استهلاك عمليَّات بيتكوين والمشفَّرات للكهرباء. وبمنتصف شهر مايو الماضي ارتفع استهلاك الطَّاقة إلى (938.37) ميجاوات في السَّاعة للبيتكوين وحْدَها، وذلك مقابل استهلاك عند (907.19) ميجاوات في السَّاعة للبيتكوين في الأسبوع الأوَّل من الشَّهر. ممَّا ساعد على زيادة نشاط الباحثين عن بيتكوين أيضًا انخفاض أسعار الكهرباء، خصوصًا تلك الَّتي يتمُّ توليدها من مصادر متجدِّدة كالشمس والرياح وغيرها. ومع انخفاض كلفة الاستهلاك توسَّع مُعدِّنو بيتكوين والمشفَّرات في نشاطهم؛ لأنَّ الربح سيكُونُ أفضل بالطَّبع. المُشْكلة أنَّه يتوقع أن تزيدَ تلك العمليَّات باطِّراد ما يُشكِّل ضغطًا أكبر على شبكات الكهرباء في كثير من الدوَل. وإذا كان سعر بيتكوين حاليًّا حَوْلَ ستِّين ألف دولار فالتوقُّعات أن يرتفعَ سعرها أضعافًا في الفترة القادمة. وهذا ما سيُغري كثيرين بالدخول في سُوق تعدين المشفَّرات وزيادة الضغط أكثر على شبكات الكهرباء.
طبعًا لا يُمكِن أن نعزوَ مشاكل الكهرباء في دوَل كثيرة حَوْلَ العالَم إلى زيادة استهلاك مستخدمي بيتكوين والعملات المشفَّرة، لكن أيضًا لا يُمكِن إغفال هذا العامل المُهمِّ في أزمة انقِطاع الَّتيار الكهربائي. صحيح أنَّ هناك زيادة كبيرة في استخدامات الأجهزة الَّتي تعتمد في تشغيلها على الكهرباء، خصوصًا ما بعد أزمة وباء كورونا واستمرار العمل عن البُعد ومن المنازل لأعدادٍ كبيرة من البَشَر، لكن استهلاك الطَّاقة في عمليَّات بيتكوين أكبر بأضعاف مضاعفة من استهلاك كُلِّ أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) الشخصيَّة حَوْلَ العالَم. وللأسف تُسهم عمليَّات العملات المشفَّرة، باستهلاكها المهول للطَّاقة، في أزمة التغيُّر المناخي؛ لأنَّ استهلاكها يعني مزيدًا من الانبعاثات في الغلاف الجوِّي. وهكذا هي دائرة مفرغة من التأثير والأضرار.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري