ليلة الزلزلة. لا يعلم المرء ما يبيِّته الغَيب من أحداثٍ جِسام، ولا يملك القدرة على التنبُّؤ بمفاجآت القدر الَّتي قَدْ تغيِّر مجرى حياته بشكلٍ عميق وحادٍّ، وتحوُّل مسارات خططه وبرامجه إلى طُرق أخرى مغايرة عمَّا أعدَّ له وقرَّره، ولا ما تعترضه من أسباب ودوافع تجعله ينقلب على الأفكار والمبادئ الَّتي عاش ردحًا من الزمن ينافح ويدافع عَنْها. إنَّها لحظة من الزمن تعادل أحيانًا سنوات وعصورًا من العمر، تكسب الإنسان خبرات وتجارب وعمقًا في الوعي وسعةً في التعلُّم والمعرفة... ولا يُمكِن لإنسان ما، توصيف وتقدير وتعريف الحدث القادر على هذا الفعل العنيف بدقَّة وبراعة وضبط ووضوح... إلَّا إذا كان من المُعايشين والمتأثرين والمرتبطين والمكتوين به، وشارك فيه جسدًا وروحًا وأصبح ـ الحدث ـ فصلًا من فصول حياته ومحورًا من محاور سِيرته لا ينفكُّ عَنْهما، وأنا بمعيَّة أفراد عائلتي عشنا ليلة الزلزلة في مراكش، مساء الجمعة الثامن من سبتمبر 2023م، ومع ذلك أجدني ضعيفًا عاجزًا وفي حالة من العيِّ وأنا أحاول وصف وعرض وتقديم تفاصيل ما حدَث لنَا ولعموم سكَّان «مراكش»، الَّذين عشتُ معهم وبرفقتهم ليلة الزلزلة العظمى، كيف لا؟ وقَدْ كنَّا على «شفا جرف» من الموت، ودرجة واحدة من مقاييس الزلزال أنقذتنا من أن ندفنَ تحت الأنقاض، في مباني الحي الشَّعبي المهترئ والهشِّ «حي المواسين»، الَّذي كنَّا نسكن في واحدٍ من نُزله، بالجوار من السَّاحة المعروفة والمشهورة على مستوى العالَم «الفنا»، وجامع «الكتيبة» التاريخي. في تلكم الليلة الاستثنائيَّة في حياة كُلِّ إنسان عاش أحداثها، ومُجتمع اكتوى بفقدان أحبَّة فيها، كنَّا ما قَبل الحدث الجلَل، مُرهَقِين بعد رحلة ليليَّة جوِّيَّة من أبوظبي إلى الدار البيضاء، تبعناها بسيرٍ برِّي من عاصمة المغرب الاقتصاديَّة إلى أموراكوش، أو أرض الله، أو المدينة الحمراء، عاصمة النخيل، وزهرة الجنوب، مدينة مراكش، فأسلمنا أرواحنا وأجسادنا لنومٍ عميق، وسبحنا في أمواج من الرؤى والأحلام المتضاربة الخالية من التجانس والتوافق، العصيَّة على الفهم والتفسير، في السَّاعات الأولى من الليل البهيم، مستسلمين للقضاء والقدر، فلَمْ يرِدْ إلى خيالنا بأنَّ حدثًا جللًا ننتظره أو أنَّه يترصدنا، من النَّوع الَّذي لَمْ نشهد له مثيلًا من قَبل، وقَدْ بلغتُ الستين من العمر. ففي لحظة فارقة تزلزلت الأرض، فأخرجَتْ أثقالها وتحرَّكتْ طبقاتها، فاهتزَّ كُلُّ شيء باهتزازها، وكاد يبتلعنا فوها، دُونَ أن تتركَ أثرًا يعرِّف بنا حتَّى، إلَّا الشهادة، وهي غنيمة عظيمة وجائزة كبيرة، عِندما تتقبَّلها النَّفْس راضيةً بقدر الله وقضائه. قفَزْنا من أسرَّتنا الَّتي أرجحتها الزلزلة يمنة ويسرة صعودًا وهبوطًا، مُلقية بأجسادٍ شتَّى لتبعثرَها داخل الغرفة، وكادت تُلقي بنا من عليائها لولا أن استبقنا بأسرع من لمح البصر ذلك المصير الَّذي قَدْ يؤدِّي إلى كسرٍ أو ارتجاج أو تفكُّك بعض أعضائنا، وهدر المكان واهتزَّت الجدر بسقوط الأجسام الثقيلة والخفيفة وأكوام الطوب على الأرض والسيَّارات المتوقفة في المكان. صرخَتْ زوجتي تتساءل عما حدَث ويحدُث؟ وأجبتها مباشرة: لا شكَّ بأنَّه «زلزال»، وهرعنا إلى الاستقبال لِنتأكَّدَ من الحقيقة ونبحثَ عن سبيل للنجاة، فلَمْ نشعر يومًا بهزَّة أرضيَّة عنيفة أو خفيفة، ولَمْ نَعِش ليلة زلزلة من قَبل، إنَّها التجربة الأولى، أكَّد موظف الاستقبال أنَّ ما حدَث كان بفعل «زلزال» قوي، «وعلى الجميع مغادرة الموقع والحارة والمنطقة إلى السَّاحات والحدائق العامَّة، فهي أكثر أمانًا؛ كونها مفتوحة وبعيدة عن الأبنية والجدران والعمارات الَّتي قَدْ تسقط على النَّاس بفعل الهزَّات الارتداديَّة المتوقعة، وذلك إلى أن يصدرَ بيان رسمي من الحكومة المغربيَّة بانتهاء حالة الخطر»، أفواجًا وجماعات، رجالًا ونساء، شيوخًا وأطفالًا، أصحَّاء ومَرْضى... جميعهم بَيْنَ راكض ومسرع، وباذل الجهد للوصول إلى ساحة الحيِّ الشَّعبي، وفي حالة بائسة من الخوف والهلع والبكاء والصراخ، وطرح أسئلة وملاحظات ملتبسة متقطعة، وعجز عن اتِّخاذ القرارات، فقط يأملون النجاة ويتشبثون بالأمل ويهربون من الموت ويتضرعون إلى العلي القدير بأن يرفعَ عَنْهم أهوال هذه الليلة ويُلقيَ على طبقات الأرض السَّكينة والثبات، ويقيَ بلادهم المزيد من الهزَّات والارتدادات العنيفة، يخففون عن أنْفُسهم بالعناق والمصافحة ومساعدة بعضهم بعضًا، ووصف للحظة الفاصلة الَّتي مرُّوا بها، وسرد تجارب وقصص لا تنتهي في ليلة عنيفة، وسوف تظلُّ فصولها وملامحها وذكرياتها ماثلةً في أذهان وعقول مَن عاشها ما دام على قَيْد الحياة يحكيها الكبار للصغار، وتحتفظ وسائل التواصل وخزانة الأجهزة النقَّالة ملفَّاتها الضخمة من الصوَر والتسجيلات ومقاطع الفيديو لِمَا حلَّ بالمغاربة من كارثة الليلة المشؤومة. عجوز تولول موجوعة؛ لأنَّها كانت وحيدة في غرفتها المهترئة عِندما هزَّت الزلزلة سريرها وطوَّحت بجسدها أرضًا، قَبل أن يهبَّ جيرانها لنجدتِها واخراجها من المكان. امرأة مصدومة نفسيًّا وهي تحتضن طفلتها الَّتي رزقت بها قَبل يومين فقط. شابَّة تبكي بحرقة أفراد أُسْرتها الَّذين كانوا خارج المنزل ولا تعْلَم عَنْهم شيئًا أفي عداد الموتى هم أم الحياة؟ فقَدْ تقطَّعت السُّبل والأخبار بَيْنَ أفراد الأُسْرة الواحدة، شيخ كبير في السِّن يندب زوجته وابنته اللتين انهال عَلَيْهما منزلهم ضعيف البنية وما زالتا تحت الأنقاض، وثانٍ يشير إلى أنَّه نسي دواء القلب في غرفته المتهالكة الآيلة إلى السقوط، متسائلًا بلوعة وكمد: هل أنقذ نَفْسه من الزلزال ليموتَ بسكتة قلبيَّة؟ آخرون فقدوا منازلهم وسيَّاراتهم ومصادر رزقهم. قصص مخيفة مواقف مهولة، صوَر مرعبة يشيب لها شعر الرأس، لحظات خانقة، انتظار لمصير مجهول، رؤية ضبابيَّة، يصعب اتِّخاذ أيِّ قرار فيها فتكُونً نتائجه كارثيَّة، آلام وأحزان، فواجع ونشيج وصراخ يتواصل من أمكنة متعدِّدة، وسيَّارات الإسعاف والشُّرطة بَيْنَ صادر ووارد، والبَشَر زرافات يهرعون إلى أقرب ساحة ملاصقة للحيِّ الشَّعبي، فوصلت أعدادهم المئات، وكُلُّ واحد ينفِّس عن كربته ويبثُّ حرقته الَّتي تكاد تحترق بها نَفْسه، القصص والمواقف والأحداث... ينفِّس عَنْها الجميع في ذلك المكان المتنفس. كنَّا أمام قرارات مصيريَّة، هل نبقى في السَّاحة إلى ما شاء الله وزمن مفتوح لا نهاية له؟ أم نعود إلى الفندق ونبيت فيه بقيَّة ليلتنا فالهزَّات الأرضيَّة يصعب إن لَمْ يكُنْ يستحيل التنبُّؤ بها؟ أم نسارع إلى أخذ حقائبنا وجوازاتنا وأغراضنا من الفندق إلى السيَّارة ونغادر مراكش إلى مدينة أكثر أمنًا؟ وكيف نؤدِّي هذه المُهمَّة وأشياؤنا بما فيها الجوازات في نُزل يقع في حيٍّ هشٍّ متهالكة بنيته التحتيَّة معرَّض لتساقطِ منازله القديمة في أيَّة لحظة؟ كُلُّ قرار من تلكم القرارات والخيارات له عواقبه ومسؤوليَّاته الَّتي قَدْ تفقدنا حياتنا أو تنقذنا من مهالك وموت قادم. نصحنا الشُّرطي المكلَّف بتهدئة النَّاس وطمأنتهم وضبط الفوضى الحاصلة، بالتريث والبقاء إلى أن تتضحَ الصورة وينجليَ الخطر، خصوصًا أنَّ «المعلومات الحديثة الَّتي وصلتهم تؤكِّد أنَّ هزَّة أشدَّ عنفًا متوقعة خلال قادم الدقائق أو السَّاعات»، يا لهول هذه الليلة الَّتي تأبى ثوانيها الطويلة أن تتحركَ وصبحها أن ينجليَ. عرض عَلَيْنا الشُّرطي مرافقته إلى «ساحة الفنا»، مكان التجمع الرسمي؛ لكونها أكثر أمانًا وقدرة على امتصاص الهزَّات الأرضيَّة المتوقعة، صحبناه مشيًا ضِمن فوج من السيَّاح تقدر أعدادهم بالمئات، كانت ساحة الفناء، بأسواقها وحدائقها الواسعة وشوارعها وزواياها تحتشد بآلاف البَشَر من مراكش وخارجها، مُعْظمهم افترش الأرض لقضاء الليل في الصلوات والدعاء ومساعدة بعضهم والتخفيف من هول الموقف، وسلَّم بعضهم الأجساد لنومٍ عميق أو في اللعب... وهم بَيْنَ رجاء بأن لا تتبعَ الهزَّة العنيفة أخرى ارتداديَّة، وخوف من قادم مجهول قَدْ يكُونُ الأسوأ يفقدهم المزيد من الأحبَّة والأملاك ويحوِّل حياتهم إلى نغصٍ مستمرٍّ ونكدٍ متواصل ونكبة لا نهاية لها... فمُعْظم مَن تحدَّثنا معهم أكَّدوا أنَّهم لَمْ يشهدوا ليلة تماثلها في حياتهم، وبعضهم شيوخ وصل بهم العمر منتهاه. وقضينا ما تبقَّى من ساعات الليل في العراء «نتوسَّد الأرض ونلتحف السماء»، مع الآلاف من البَشَر، نشعر بمعاناة اللاجئين وضيق المهاجرين وأنين المشرَّدين حَوْلَ العالَم، ممَّن لا دَوْر ولا وطن يلجؤون إليهما، فما أتعسَ الحياة وأقساها وأضيق سعتها على ملايين النَّاس، وأسخاها وأكرمها على آخرين، فالعدالة مغيَّبة في دنيانا، والإنسان القاسي المتكبر والمتغطرس الأناني المتعالي على غيره، المستقوي على الفقراء والمساكين هو مَن يتحمل مسؤوليَّة غياب العدالة والمساواة على الأرض. في الساعات الأولى لفجر السبت التاسع من سبتمبر 2023م، قررنا بالإجماع، مغادرة مراكش إلى الدار البيضاء، توكلنا على الله ووضعنا ثقتنا فيه، فهو المدبِّر لأقدار عباده وما فيه خيرهم ومصلحتهم، في السَّاعة الرابعة والدُّنيا ما زالت تلتحف ظلام ليلتها المنحوسة، تركنا مراكش وأهل مراكش لأقدارهم، وقَدِ استجاب الله لدعاء الملايين فكان رحيمًا بعباده الَّذين استعادوا حياتهم تدريجيًّا وواصلوا مسار التعافي من تأثيرات وخسائر ليلة الزلزلة الأليمة، واستأنفنا نحن برنامجنا، وكانت ليلة الزلزلة تجربة أليمة من تجارب الحياة النادرة، ودرسًا عميقًا لَنْ ننساه أنا وأفراد أُسرتي ما بقينا على قَيْد الحياة.. «يتبع».
سعود بن علي الحارثي