الثلاثاء 01 يوليو 2025 م - 5 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

من طشقند إلى سمرقند .. من أوزبكستان إلى كازاخستان .. شمس الإسلام أشرقت فـي آسيا الوسطى «2ـ7»

من طشقند إلى سمرقند .. من أوزبكستان إلى كازاخستان .. شمس الإسلام أشرقت فـي آسيا الوسطى «2ـ7»
الأحد - 09 يونيو 2024 05:35 م

سعود بن علي الحارثي

20


ثانيًا: «سيِّد نَفْسِك».

كانت أوزبكستان جزءَا من إمبراطوريَّة، ومركزًا لحضارةٍ، وتقلَّصت إلى إمارةٍ ودَولة، وتغيَّرت حدودها الجغرافيَّة مرَّات، اتَّسعت في فترات تاريخيَّة، فشملت مُدُنًا وبُلدانًا ومساحات واسعة، وانكمشت إلى حيِّزٍ جغرافي محدود، في أزمنة أخرى، ازدهرت مُدُنها، ونمَتْ مكتباتها ومدارسها، ونشطَتْ فيها الحركة العلميَّة، واستقطبت المئات من العلماء والأدباء والمفكِّرين والفلاسفة والأطباء، وأنجبت أضعافهم، وكانت مضرب المَثل في الماضي، تعرَّضت للغزوِ ولهجماتٍ شرسة واستعمارٍ وتدميرٍ هائل، ومحاولات مستميتة لِطمْسِ هُوِيَّتها الدينيَّة والثقافيَّة والعمرانيَّة، وانتمائها الإسلامي، وأفشل شَعبها المؤمن بالإسلام، ذو الشكيمة القويَّة والشَّجاعة الثَّابتة والصَّبر غير المحدود، كُلَّ محاولات وعمليَّات الطَّمْس الدَّنيئة، وظلَّت أوزبكستان وأهلُها أوفياء لجذورِهم وهُوِيَّتهم الإسلاميَّة. تشترك مُدُن أوزبكستان في ثلاثة ملامح أساسيَّة، الأوَّل: تدمير المغول لصروحِها وقصورِها ومساجدِها وبيوتِها، الَّتي سُوِّيت بالأرض، وارتكابهم أبشَع المذابح بحقِّ سكَّانها، وأُعيد بناؤها من جديد في عهد تيمور لنك في القرن الرابع عشر الميلادي. الملمح الثَّاني: تُعَدُّ المساجد والمآذن وأضرحة الأولياء والصَّالحين والمدارس الإسلاميَّة والأحياء القديمة، والأسواق الشَّعبيَّة والتَّقاليد المحليَّة والفولكلور الأوزبكي... من أهمِّ ما يميِّزها ويستقطب السيَّاح لزيارتها. ثالثًا: تمزج عمارتها في تناسقٍ بديع، بَيْنَ الأصالة والحداثة، فالبيوت الطينيَّة والأحياء العتيقة، والمعالم التاريخيَّة الأثريَّة، تجاور المنازل العصريَّة، والمُدُن الجديدة الَّتي تختال بالبنايات الشَّاهقة والأبراج العالية المزدانة بأحدَثِ فنون العمارة.

ويُمكِن إيجاز أبرز المحطَّات التاريخيَّة الَّتي شكَّلت تاريخ أوزبكستان في الآتي:

• إنَّ الإيرانيِّين هُمْ أوَّل مَن استوطنها.

• أصبحت إقليمًا ضِمْن الإمبراطوريَّة الأخيمنيَّة، والساسانيَّة، قُبيل الفتح الإسلامي. واعتنق مُعْظم الأوزبك الإسلام، وازدهرت مُدُنها إبَّان الخلافة العباسيَّة، وتحكُّم الممالك الإسلاميَّة المتعاقبة في آسيا الوسطى، مِثل طشقند وسمرقند وبخارى وخيوة... بفضلِ موقعها الاستراتيجي على ممرَّات طريق الحرير التجاري.

• دمَّرها المغول، في القرن الثالث عشر الميلادي، واستعمرَها السوفييت وأحدَثوا فيها الكثير من الفوضى والتخريب، وتغييرًا واسعًا على تركيبة مُدُنها السكَّانيَّة قَبل تحرُّرها في العام ١٩٩١م.

وهي منعطفات تاريخيَّة تشترك فيها وتمتزج كُلُّ دوَل آسيا الوسطى.

واختلفتِ التَّفسيرات حَوْلَ المعنى أو الجذر اللُّغوي لأوزبكستان، وأوردت الكتب التاريخيَّة ثلاثة مصادر أو تأويلات، وهي، أوَّلًا: أنَّها تعني «حُر»، أو «مستقِل»، أو «سيِّد نَفْسِك». ثانيًا: تيمنًا بأغوز بيك، وهو أوَّل خاقان تركي يؤسِّس جيشًا نظاميًّا مدربًا. ثالثًا: أنَّها اختصار لكلمةِ «أوغوز وهو الاسم المشترك الَّذي يطلق على قبائل الأوغوز التركيَّة». فيما تُعَدُّ جارتها كازاخستان أكبر دَولة غير ساحليَّة في العالَم، وتُصنَّف في المرتبة التَّاسعة من حيث المساحة، وهي دَولة مُتعدِّدة الأعراق تعيش فيها (120) جنسيَّة، تتميز بالتَّعايش والتَّسامح والاحترام، وتقع بَيْنَ أوروبا وآسيا. وإذا كانت البيئة الصحراويَّة والجبال الصلدة هي المهيمنة على أراضي أوزبكستان، فإنَّ كازاخستان تمتلك مجموعة متنوِّعة من المناظر الطبيعيَّة، كالتِّلال والجبال والأراضي المسطَّحة والأخاديد والبحيرات والدّلتا والصحارى والقِمم الثلجيَّة، وغنيَّة بالاحتياطات المعدنيَّة، وتعتمد التنمية فيها على تصدير النفط. استغرق تحليقنا من مدينة الشَّارقة الإماراتيَّة، إلى مطار العاصمة الأوزبكيَّة حوالي ثلاث ساعات ونصف، في ظلامٍ حالِك، وفضاءٍ تُهيمن عَلَيْه النجوم والكواكب الطَّائرة، وقلوبٍ تخفق مع كُلِّ حركةٍ مفاجئة يُحدُثها مطبٌّ هوائي، ونفوسٍ تتطلع بلهفةٍ وشوق لبلوغِ عالَمها الأرضي الطبيعي سريعًا، فتطمئن إلى سلامتها من شراك الحوادث الَّتي التهمت طائرات بركَّابها في مناسبات حزينة ومؤلمة شهدها العالَم. هل يستحقُّ السَّفر هذه المعاناة والمكابدة ورحلات محفوفة بشتَّى أنواع المخاطر؟ ساعات طويلة في ليلٍ بهيمٍ داخل تابوت معدني، محلِّق في فضاء مفتوح، تؤرجحه المطبَّات الهوائيَّة وتتلاعب به الرياح العلويَّة الحادَّة، الخطأ البَشَري أو التِّقني أو التَّصنيعي وارد والعواصف والسُّحب والأمطار تتسبَّب في مخاطر جسيمة للطائرات، والحوادث المميتة الَّتي تُلقي بالرُّعب في نفوسنا، نقرأ أخبارها باستمرار، والقلق يصحب المسافر منذ اللحظة الَّتي يضمُّه فيها بطنُ الطائر المحلِّق، وحتَّى ساعة مغادرته له، واللِّسان لا يفتُر يتلو أدعية السَّلامة، أوَلَمْ يصفْ أمير الشُّعراء الطائرة بأنَّها أشدُّ غدرًا من «ليث الشرى»: «أَركَبُ اللَّيثَ وَلا أَركَبُها * وَأَرى لَيثَ الشَرى أَوفى ذِماما * غَدَرَت جَيرونَ لَم تَحفِل بِهِ * وَبِما حاوَلَ مِن فَوزٍ وَراما * وَقَعَت ناحِيَةً فَاحتَرَقَت * مِثلَ قُرصِ الشَمسِ بِالأُفقِ اِضطِراما». واعتبرها الموسيقار عبد الوهاب من «أصعب صوَر العذاب»، في الدُّنيا، بعد أوَّل تجربة له تحليقًا في بطنِ طائرة، «أردت أن أكفِّرَ عن ذنوبي وأتطهَّرَ ممَّا علق في نَفْسي من خطايا فبحثت عن أصعب صوَر العذاب الَّذي يُمكِن لِبَشرٍ أن يتحملَه والَّذي يضْمَن لي الجَنَّة، ولم أجدْ أحسنَ ولا أجملَ من ركوب الطائرة لأتعذبَ فيها، وقد أجاب الله طلبي فتعذَّبتُ وتطهَّرتُ وسأدخل الجَنَّة إن شاء الله». فما الَّذي يُكلِّفنا إذن ويدعونا ويحفِّزنا إلى السَّفر؟ هل هو الفضول والشَّغف بخوض التجارب، واستقصاء واستطلاع كيف تعيش المُجتمعات والأُمم الأخرى، ورصد تقدُّم الدوَل وازدهار البُلدان أو تخلُّفها وضعفها وإجراء المقارنات واستيعاب الأسباب، وتوثيق المشاهدات وما تراه العين من عجائب وغرائب وعادات الشعوب ومعتقداتها وصناعاتها...؟ قد تكُونُ تلك الأسباب مُجتمعة أو بعضها ما يدفعنا ويشجِّعنا على السَّفر وتجاهل مخاطره ومشقَّاته، وهي تستحقُّ المكابدة وخوض التجربة تلو الأخرى والاطِّلاع على حضارات الشعوب وصروحها وثقافاتها وفنونها وما تتمتع به من جماليَّات الطبيعة وعجائب الحياة، وهو ما يغرس فينا هذا الشَّغف والولَه وعِشق التطواف بَيْنَ المُدُن والبُلدان والأرياف ونعيش أيامًا جميلة لا تنسى. اخترتُ رفيقًا في سفري إلى أوزبكستان، بالإضافة إلى أصدقاء هذا التطواف، مختارات من القصَّة الفرنسيَّة القصيرة، لعددٍ من الكتَّاب البارزين، بعنوان «لم يخلق الرجال ليكُونُوا وحيدين»، من اختيار وترجمة «وئام غداس»، وقد أحسنَ الانتقاء، إذ استمتعت بقراءتها أيَّما استمتاع، لعُمقِ المحتوى وأناقة اللُّغة، ورصانة الصياغة حدَّ الإدهاش، وغنى الرسالة الَّتي تناولت قضايا الإنسان وإشكالات الحياة ومحاولة تفكيكها وتحليلها برؤية فلسفيَّة عميقة، «متفجرات الورق هذه تثير خوفي، العالَم كلُّه يكتب، كُلُّ النَّاس يطمحون أن يصبحوا كتَّابًا، لم أحتملْ هذه الأسئلة الَّتي تتعلق بعمليَّة الكتابة، لم أعُدْ أمتلك الصَّبر حيال هذا الكمِّ الهائل من البَشَر الَّذين يحلمون بالشهرة...». المجموعة اخترتُها بهديٍ من نصيحة الشَّاب المثقَّف الإرتيري «بلال برهان»، صاحب دار «منشورات حياة»، الَّذي أسَرني في معرض الكِتاب، في فبراير الماضي، بشرحِه العميق لكُلِّ عنوان ومؤلّف يعرض في داره، كما انبهرت بفرادة الإصدارات داخل الدار. «يتبع».

سعود بن علي الحارثي