الجمعة 27 ديسمبر 2024 م - 25 جمادى الآخرة 1446 هـ

آية الإسراء.. «قراءة تحليلية بلاغية وتربوية» «1»

الثلاثاء - 09 يناير 2024 07:49 م
40

كلما هَلَّ شهرُ الله الحرام، شهرُ رجب الفرد، هَشَّتِ النفسُ، وبَشَّتْ لتلك الذكرى العطرة، وتهللَتْ لهاتيك الحادثة الضخمة من أحداث الإسلام الكبرى، وهي حدث الإسراء والمعراج، الإسراء الذي بدأ من مكة المكرمة (حيث الانطلاق من بيت الله الحرام الكعبة المشرفة) وانتهى إلى بيت المقدس (حيث المسجد الأقصى المبارك)، والمعراج هو عروجه (صلى الله عليه وسلم) بعد صلاته بالأنبياء جميعًا في القدس الشريف، إلى السموات العلا (فعُرِجَ به حيثُ تشرَّف بسَنِّ شِرْعَةِ الصلاة ، وأعطاها الله له هديةً من فوق سبع سموات، حيث فُرِضَتْ كلُّ الفرائض في الأرض إلا الصلاة ، فقد فُرِضَتْ في السماء؛ لتعلوَ بالإنسانية إلى أرقى غاياتها، وترتقي بها إلى أسمى درجاتها)، ورأى الرُّؤَى التي بَيَّنَتْ له طبيعةَ المستقبل، وما سيحدث فيه، وعرف كلَّ ما عَرَفَهُ في هاتيك الرؤى، ورمزيتها، ودلالاتها (لقد رأى من آيات ربه الكبرى)، وعاد لِتَوِّهِ من رحلتَيْه:(الأرضية، والسماوية)، فوجد مكان نومه لا يزال دافئًا، كأن لم يتركْه إلا لحظاتٍ يسيراتٍ، هَيِّنَاتٍ؛ وذلك من عظمة الإعجاز، وسعة القدرة الإلهية، وكمال الأفضال الربانية، وهنا ندور حول آية الإسراء في مطلع سورة كاملة تَسَمَّتْ بهذا الحدث الجلل، نتوقف أمام ألفاظها نستدرُّ منها البلاغةَ، ونتعلم معها دروس التربية، وأنواع القيم، ونتفهم الغاياتِ العلا التي تحملتْها تلك الآية الكريمة، والعظات الجليلة التي انطوت عليها، يقول الله تعالى:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الْإِسراء ـ 1). بدأت الآية الكريمة بكلمة: (سبحان) التي هي عَلَمٌ على التسبيح، والتنزيه، وهي كناية عن خطورة، وعظمة، وقدسية الحدث حتى بدأتْ بما يستدعي التعجب، والانبهار؛ لما تضمنتْه من عجائب الأحداث، وغرائب المعجزات، وكمال الأسرار؛ إذ كيف لبشر أن يرتقيَ إلى مستوى أن يستدعيَه مالكُ الملك، وربُّ الملكوت، ويستضيفه؛ ليخرج عن حيِّز الأرض كلها، ويصعد إلى السموات العلا، حيث يتجاوز السبعَ الطباقَ في رحلة ملائكية، يقودها جبريل (عليه السلام) رئيس الملائكة، الذي امتدحه ربه بالقوة، ووصفه بالبأس، والشدة، فقال في حقه (عليه السلام):(ذو مِرَّةٍ فاستوى)، والذي وصفه بالروح في ليلة القدر في سورة القدر، عندما ينزل في كوكبة عظمى من الملائكة، يبشر المؤمنين، المعتكفين، والمصلين، والداعين، والباكين، والراجين عفوَ ربِّهم في تلك الليلة المباركة، قال:(تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر)، فاستحق الموقفُ كلُّه العجبَ؛ إذ كيف يمضي كلَّ تلك الآلاف من الكيلو مترات من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في لمح البصر، وكيف يمضي به براقٌ، فيسافر كالبرق، يضع حافرَه عند منتهى بصرِه، وكيف يصعد تلك الطباق التي تجهدُ الأقمار الفضائية، وتأخذ منها أيامًا، ولياليَ رغم سرعتها الهائلة غير المتصوَّرة، وينزل منها، ويمضي إلى بيته، فيرى مكانه، وموضعَ منامه لا يزال ساخنًا، كأن قد تركه لثوانٍ معدودات، فلم تؤثرْ في دفئه تلك المسافاتُ الكبيراتُ، ولا ملايينُ الكيلومترات، إنه حقًّا أمرٌ يبعث على العجب العجاب، ويجعل لفظة:(سبحان) التي تصدرت السورة قد وُضِعَتْ موضعها البليغ، ونزلتْ في موطنها الرفيع، فـ(سبحان) تعني كمال التنزيه، وجلال التقديس، وهي كلمة عظيمة، لا تجوز أن تقال إلا لله وحده، وهذا الحدث ـ كما ترون ـ حدثٌ فوق مستوى قدرات البشر، وخارج إطار تفكير الخلق، حيث يفتح الكونُ له عينيه متعجبًا، ويفغر الفمُ شفتيْه متأمّلًا مترقِّبًا، ويغيب العقلُ، والفكر متحيِّرًا، داهشًا، غارقًا في عجبه متقلِّبًا، ويضرب كفيْه ولهما مقلِّبًا، حدثٌ هو فوق مستوى العقول، والذي قام به اللهُ خير مسؤول، ومَنْ بيده كل حول، وطول، ولا يعجزه شيء في سماء، ولا أرض، مالك كل شيء، وصاحب كل قدرة، وله كل قوة، وهو على كل شيء قدير. وفي قوله:(سبحان الذي أسرى بعبده) إيجاز بالحذف، أي:(سبحان الله الذي أسرى بعبده)، والحذف هنا للعلم به، ولأنه من بِنْيَةِ الاعتقاد الصحيح أن يوقن العبد المسلم، والمؤمن أن الله قادر، وقدير، ومقتدر على كل شيء، وأن هذه الحادثة لا دخل فيها لأيِّ بشر، فهي وَقْفٌ على رب البشر فقط، فعبِّر باسم الموصول المضاف إلى ما قبله:(سبحان الذي...)، ومعه صلته التي لا يُفهَم إلا بها، ولا يتعرَّف إلا من خلالها، فهو كما يقال:(اسم الموصول معرفة، ولكنها معرفة مبهمة، تتطلب جملة الصلة؛ لتوضحها؛ حيث إن الموصول وصلته كالشيء الواحد).

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

[email protected]