لعلَّ الكثير منَّا يعي ما المشيمة؟ وكيف أنَّها عضو ينمو عميقًا في جسم الأُمِّ من أجْلِ تغذية الجنين أثناء الحمل؟ ولكن ما لا يدركه الجميع، كيف أنَّها قد تحمل مفتاح أحَد الألغاز الأكثر ديمومة في الطِّب البَشَري، ألَا وهو: لماذا تعاني النِّساء من معدَّلات أعلى بكثير من أمراض المناعة الذاتيَّة مقارنة بالرجال؟
طبعًا ـ بلا شك ـ يعلم الكثير منَّا، كيف أنَّ أمراض المناعة الذاتيَّة تعمل على تحويل أجهزة المناعة لدى الأشخاص ضدَّ أجسادهم! حيث تُمثِّل النِّساء نسبة عالية من جميع حالات أمراض المناعة الذاتيَّة. لذلك وـ على سبيل المثال ـ قد نسمع كيف أنَّ النِّساء أكثر عرضة بنِسَبٍ متفاوتة من الرجال للإصابة بمتلازمة (سجوجرن)، حيث يطارد الجهاز المناعي الغدد التي تنتج الدموع واللعاب، وأكثر عرضة أيضًا بنسبة تسع مرَّات للإصابة بالتهاب الغدَّة الدرقيَّة (هاشيموتو) كما بيَّنت إحدى الدراسات، حيث يركّز على الغدَّة الدرقيَّة. ناهيك عن مرَض الذئبة الحمراءـ والذي قد سمع عنه الكثير منَّا ـ، ويُعَدُّ حقيقةً أكثر شيوعًا لدى النِّساء بثماني مرَّات مقارنةً بالرجال!
من هنا يعتقد بعض العلماء الآن أنَّ المشيمة نَفْسَها قد تكُونُ السَّبب وراء تأثُّر النِّساء بشكلٍ غير متناسب، وباتَتْ هنالك دراسات متعدِّدة تخوض في هذا الأمر، خصوصًا وأنَّه عندما تنمو المشيمة أثناء الحمل، يرسل العضو إشارات إلى الجهاز المناعي للأُمِّ لتغييرِ نشاطه حتى لا يقومَ جِسم الأُمِّ بإخراج المشيمة والجنين. قد يعني هذا أيضًا تثبيط جهاز المناعة في بعض النواحي، أو لبعضِ الفترات من الزمن. ومع ذلك، فإنَّ تثبيط جهاز المناعة أكثر من اللازم قد يؤدِّي إلى ترك النِّساء حسَّاسات لمسبِّبات الأمراض، الأمْر الذي قد يكُونُ سيئًا أيضًا بالنسبة للجنين. لذا بدلًا من ذلك، ينشط جهاز المناعة لدى الأُمِّ بطُرقٍ أخرى خلال مرحلة البلوغ ـ ولعلَّه هنا تكمن الفكرة ـ، وذلك لبقاء الجسم يقظ ضدَّ الجراثيم حتى عندما تصبح بعض أجزائه خاملةً أثناء الحمل!
لذلك، تصبح الأمور معقَّدة عندما لا تحدُث حالات الحمل هذه بالفعل. وربَّما قد تكُونُ هنا الإشكالية! ما أعنيه هنا تحديدًا، أنَّه بِدُونِ ردِّ فعلٍ مستمر إلى حدٍّ ما من المشيمة أثناء الحمل ـ وهو الردُّ الذي تطوَّرت أجهزة المناعة لدى المرأة لتوقُّعِه ـ يُمكِن لجهاز المناعة أن يصبحَ عدوانيًّا، بل ويبدأ بالبحث عن أشياء ليست خطيرة لمهاجمتِها، وهذه ـ إن استطعت القول ـ هي الطريقة التي تنشأ بها أمراض المناعة الذاتيَّة.
طبعًا من المؤكد أنَّ هذه ليست النظريَّة الأولى التي توضح سبب معاناة النِّساء من أمراض المناعة الذاتيَّة أكثر من الرجال، خصوصًا وأنَّ ارتباط موضوع الكروموسومات قد يكُونُ أحَدها! وبعبارة أخرى، من المؤكد أنَّ الفرضيَّة أعلاه، هي فكرة مثيرة للاهتمام، ولكن لا يزال يتعيَّن اختبارها لفتراتٍ أطول!
ختامًا، ربَّما الأمل هنا هو أن نتعلَّمَ في النِّهاية ما الذي يحاوله الجهاز المناعي استجابةً للمشيمة، ويُمكِن مستقبلًا التفكير كحلٍّ في استهداف هذا الشيء باللقاحات أو العلاجات. مؤكدًا أنَّ المزيد من الأبحاث من خلال المؤسَّسات البحثية بسلطنة عُمان يُمكِن أن تعني تحسينات كبيرة في طريقة علاج أمراض المناعة الذاتيَّة لدى النِّساء.
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي