السبت 24 مايو 2025 م - 26 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : أوقفوا بناء المســـــــــاجد

في العمق : أوقفوا بناء المســـــــــاجد
السبت - 01 يونيو 2024 04:59 م

د.رجب بن علي العويسي

230


كنتُ قد أشرتُ في مقالات سابقة إلى أنَّ إفراغ المساجد التي لا تُقام فيها صلاة الجمعة من الأئمَّة باتَ يدقُّ ناقوس الخطر، وأحسبُ أنَّ القضايا المرفوعة عن تداعيات هذا القرار أو التوجُّه وتأثيراته في تأجيج الاختلاف والصراع المُجتمعي، مؤخرًا لجهاتِ الاختصاص باتَ كفيلًا بأن تُعيدَ وزارة الأوقاف والشؤون الدينية حساباتها في قراءة هذا الملف وتصحيح مساراته وإعادة تقييم أدواته وفرض سُلطة تشريعية وضبطية وتحفيزية قادرة على تقديم حلول منتجة في مواجهة كومة التراكمات وحالة الصراع والتباينات والاختلافات بين أبناء المناطق السكنية في سدِّ فراغ الإمام والوقوف على تداعيات هذا الأمر من نواحٍ عدَّة، واقتراح البدائل الممكنة التحقق التي يُمكِن طرحها إن كان الهدف هو تقنين الإنفاق العام، ومنح المساجد مساحة أكبر من اللامركزية في الاعتماد على مواردها، ذلك أنَّ حجم القلق وعلامات الاستفهام حَوْلَ الصورة القاتمة التي وصل إليها هذا الملف في بعض المواقع والأماكن، في ظلِّ ما صاحبَها من حالة التراخي وضعف مستوى الضبطيَّة، ومدى كفاءة نُظم المتابعة والرقابة، باتَ يُنذر بتداعياته وتأثيره على منظومة الثوابت العُمانية.

على أنَّ التحوُّلات الحاصلة في مفاهيم الإدارة وحوكمة الأداء، وإسقاطها في مهام المسجد وأدوار واختصاصات أئمَّة المساجد، عَبْرَ «حوكمة المساجد» تصنع من عُمق رسالة المسجد رهان المعالجة، فالمسألة ينبغي أن لا تركنَ إلى أبسط الخيارات وأسهلها بسحبِ الأئمَّة من أجْلِ تقليل الإنفاق والموازنات؛ بل في إعادة هيكلة وإنتاج دَوْر الأئمَّة ورسم ملامح رسالة المسجد عَبْرَ إدماجه في المُجتمع ليصبحَ مؤسَّسة تنموية اجتماعية ثقافية أخلاقية، ترفع من شأن القِيَم وتحافظ على الهُوِيَّة والسَّمت العُماني وتقوية النسيج الاجتماعي وقِيَم التضامن والتكافل والتعاون بين أبناء المُجتمع في مواجهة الأزمات الاقتصاديَّة وكومة التحدِّيات الفكرية والنَّفْسية التي يواجهها النشء، لذلك كان إفراغ المساجد من الأئمَّة تعطيلًا لهذه الصورة المأمولة لموقعِ المسجد في المنظومة المُجتمعية؛ باعتباره حاضرة المُجتمع العُماني وأحَد الثوابت التي صبغت حياة العُمانيين وكوَّنت شخصياتهم على مرِّ العصور، والذي يجِبُ أن يبقى محافظًا على مُكوِّناته في تحقيق هذا النَّهج.

إنَّ ارتفاع مؤشِّر أعداد الأئمَّة الوافدين في المساجد والجوامع يؤكِّد ما أشرنا إليه من فرضية توقَّع الخطر الناتج من إفراغ المساجد من الأئمَّة، إذ لا ينبغي أن نقرأَ دَوْر الإمام في الصلاة فحسب، وهو أمرٌ قد يقدِّمه الأئمَّة الوافدون بشكلٍ محترف في ظلِّ المنافسة الحاصلة من قِبلهم والصورة الإيجابية التي قدَّموها في مشاهد صلوات التراويح من حيث حُسن الصوت والتجويد وجودة التلاوة واتساع مستويات الحفظ لدَيْهم لأجزاءٍ من القرآن الكريم وتنوُّع القراءات لدى أكثرهم، وجانب الالتزام الذي قد لا يُتقنه بعض الأئمَّة، مع توافر الأئمَّة الوافدين بالأجر اليومي أو الشَّهري والسَّنوي، الأمر الذي باتَ يُشكِّل تحدِّيًا كبيرًا للأئمَّة العُمانيين القائمين على رأس العمل أو الباحثين عن عمل بوظيفة إمام مسجد، وهو يطرح الصورة الأخرى لهذا الفراغ، في جانب رفع مستوى الوعي المُجتمعي والمشاركة المسجدية في التنمية والتطوير وتعظيم قِيَم العمل الاجتماعي الخيري والتطوُّعي والمسؤولية الاجتماعية، أو البناء الفكري العقَدي الذي ينطلق من الثوابت العُمانية والذي نعتقد بأنَّ تحققَه لا يأتي إلَّا من خلال وجود الكفاءات العُمانية المؤثِّرة والفاعلة، الأمر الذي لا يُمكِن التكهُّن به في ظلِّ ارتفاع أعداد المساجد والجوامع. وما أشار إليه معالي وزير الأوقاف والشؤون الدينية من أنَّ سلطنة عُمان من أكثر الدول الإسلامية في تعداد المساجد حيث يخدم كلُّ مسجد في عُمان قرابة (25) شخصًا.

قد يرى البعض في تكاليف بناء المساجد ـ أحَد المبرِّرات في الدَّعوة إلى وقف بناء المساجد، فمثلًا بناء مسجد في المُدُن الكبرى، يسع (500) مصلٍّ يحتاج إلى نصف مليون ريال عُماني، ناهيك عن متطلبات أخرى خارج هذا المبلغ، الأمر الذي باتَ يُلقي بمسؤولياته على أهلِ الخير والشركات وأصحاب الأيادي السخية في التبرُّع لإتمام بناء المسجد، ممَّا انعكس على نشاط العمل الاجتماعي الخيري، في ظلِّ اعتذار الكثير منهم بتمويل بعض الجوامع والمساجد، ومع أنَّني شخصيًّا لست مع هذا الطرح لقناعتي بأنَّ الثوابت لا تُقاس بالموازنات الماليَّة ولا بحجم ما يُصرف عليها من أموال؛ لكونها الأصل الذي بوجوده والمحافظة على كفاءته يأتي المال إمَّا كاستثمار مباشر أو غير مباشر، والمساجد استثمار للبَشر إن أُحسن استخدامها وتوجيهها وفعِّلت مُكوِّناتها، وعندما يتمُّ بناء البَشر تصبح الأمور الأخرى ميسورة التحقُّق، ولا تحتاج إلى موارد كبيرة، فحقَّقنا بالثوابت، المال ووفَّرنا الجهد، وتمَّ ضبط المتغيِّرات التي قد يؤدِّي انحرافها إلى تداعيات خطيرة على النَّشء والمُجتمع والأمن الوطني العام ـ فإنَّ من بين المسائل التي يُمكِن أن تطرح في الشَّأن نَفْسه، والذي يأتي تزامنًا مع التَّوجيه السَّامي لجلالة السُّلطان بإنشاء «المؤسَّسة العُمانية الوقفية»، فإنَّ التحدِّي الأكبر ليس في تنوُّع مصادر الوقف ومجالاته وعناصره ومصارفه؛ بل في توجيه الأنظار والاهتمام المُجتمعي إلى الأنواع المختلفة من الوقوف خارج إطار الجوامع والمساجد، بشكلٍ يحقِّق معادلة التكامل الوقفي التنموي الاجتماعي، وفق أفضل الممارسات وأسمى الغايات.

إنَّ المتأمل في مدلولات عام المسجد الذي اتَّخذته وزارة الأوقاف والشؤون الدينية مشكورة شعارَا لها لعام 2024، رغم ما يحمله من فرص، إلَّا أنَّ قراءته للمسجد في إطار البُعد المالي والموازنات وتوجيه وقف المسجد لسدادِ احتياجاته ومتطلباته من الصيانة والعناية وتوفير الإمام والقائم على نظافته، لن يكُونَ له ذلك المردود التنافسي المأمول، إن لم تأخذ المسألة في الاعتبار الإبقاء على دَوْر الوزارة حاضرًا أصيلًا في الدَّعم والمساندة وتغطية مجالات الصرف، نظرًا للتباينِ الحاصل في إمكانات المساجد ومواردها، والذي قد يعُودُ لاعتباراتٍ عدَّة مِنْها، مواقع المسجد والبيئة الاقتصاديَّة والتجارية والعمرانية التي يخدمها، فإنَّ تخلِّيَ الوزارة عن مسؤوليتها في التعيين المباشر لأئمَّة المساجد، كاستحقاقٍ وجوبي للحيلولةِ دُونَ فراغ الأئمَّة؛ أعاد وضع المساجد إلى المربَّع الأوَّل واتَّجه بها إلى تغييب رسالة المسجد في بناء مُجتمع الإيمان والصلاح والتنمية وإنتاج القدوات وتربية النشء، ما يدعو إلى ردِّ الاعتبار لرسالةِ المسجد وقدسيَّتها وإخراجها من دائرة الخلافات العائلية والقبلية والمذهبية والاجتماعية، وإبعادها عن المساومات والمجادلات وحالة التنازع والاختلافات، وتنزيهها من هذه التجاذبات وصونها من الخلافات التي تفقدها هيبتها في نفوس النشء.

لذلك فإنَّ عام المساجد لم يقدِّم نموذجًا مبتكرًا يعتمد عليه في إعادة هيكلة وإنتاجية رسالة المسجد ومسؤولية الأئمَّة في ظلِّ المعطيات الكونية، وترسيخ منظومة القِيَم والهُوِيَّة والسَّمت العُماني وتربية الأبناء وصناعة القدوات، واحتواء المُكوِّن المُجتمعي؛ بل أدَّى غياب الأدوات الضبطية وتنازع الاختصاصات داخل الهيكلة التنظيمية للوزارة في معالجة التحدِّيات المتوقعة، أو وجود سيناريوهات عمل مدروسة بالبدائل، وكفاءة وجاهزية أنظمة الدَّعم والمساندة في التعامل مع التراكمات والخلافات المُجتمعية حول المسجد، ما يؤكد الحاجة إلى تقييم هذا المسار وإعادة تصحيحه والوقوف مع الجهات المُجتمعية والأمنية والماليَّة والمحافِظين ومكاتب الولاة بالمحافظات في تقييم هذا الوضع. أخيرًا، نؤكد على أهمِّية أن تتعدَّى منظومة «حوكمة المساجد» مسألة الوقف والاستثمار في أموال المسجد، وبأن لا يبقى مسجد في سلطنة عُمان بِدُونِ وقفٍ، بل في تصحيح المسار الناتج عن تداعيات توجُّه الوزارة إلى سحبِ الأئمَّة من المساجد التي لا تُقام فيها صلاة الجمعة، وإلى حين تقييم ذلك ومراجعة نواتجه وتداعياته، نؤكد على ضرورة وقف بناء وإنشاء المساجد؛ نظرًا لضبابية الصورة والتشوّهات والتراكمات التي رافقت هذا التوجُّه، وحجم الخطَر المترتِّب عليه على النسيج الاجتماعي والخصوصية العُمانية المؤصّلة لنهجِ التسامح والتوازنات الفكرية ونموذج التعايش المذهبي الذي هو نتاج لثباتِ الإجراءات وكفاءة أدوات الرقابة والمتابعة التي حافظت على رسالة المسجد، ويجِبُ أن تكُونَ حاضرة اليوم بقوَّة في مسار الحوكمة والتقنين والاهتمام بالمساجد، كجزء أصيل من اختصاصات هذه الوزارة، لا يصحُّ التنازل عنه.

د.رجب بن علي العويسي